رؤوف مسعد يتحدث عن الكتابة الروائية
سأحاول هنا أن أفي بوعدي لميريام وشوشو ونانسي و صفاء وسوسن بدر اللاتي حضرن في شبه انتظام ورشة الكتابة الروائية في “ملاذ” أحيانا في وسط البلد وعندي في شارع حسين باشا المعماري محاولة منهن في تخفيف مشقة الانتقال علي!
أولا : كيف يتحول العمل الإبداعي من رؤيا شخصية إلى فعل روتيني ويومي ؟
لا يمكن إنكار الإلهام هنا وهو من أصعب الموضوعات بحثا وعن كيفية ارتباطه بالمبدعين أو تخليه عنهم من وقت لآخر.
أنا أعتقد أن الإلهام الإبداعي للمبدعين هو حالة ” مزاجية ” ضرورية و هامة؛ بحيث يستطيع المبدعون – ساعتها – التخلص من قيود الحياة اليومية والانطلاق بعيدا عنها إلى عوالمهم الخاصة التي يتيحها لهم الإلهام. لعله نصيب مضاعف من الأدرينالين مثل ذلك الذي يصيب العدائين للمسافات الطويلة لكن دون ـن يبذل المبدعون جهدا عضليا عنيفا و لا حتى بسيطا .
يمكن بالتدريب و التأني و الصبر التعامل مع الإلهام؛ باستدعائه؛ أي بالحشد له وبالاهتمام باستقباله والاحتفاء به وعدم إضاعة الوقت في الحديث عنه بل في استخدامه متى قرر المجيء للمبدعين؛ وذلك بتنظيم استقبال الإلهام والاستفادة منه باعتباره فعلا روتينيا يوميا قد يأتي أحيانا بكثافة وغزارة وأحيانا باقتصاد و تحفظ.
ويكون ذلك بعدم تعجله و بتفهم الظروف الخاصة التي تحيط به والاستفادة بأكبر قدر ممكن منه طالما أتاح لنا من ” ذاته ” أن نقترب و ننهل منه. ساعتها يصبح مثل حيوان غير منزلي نفلح في ترويضه فيرد هانئا مستكينا تحت أيدينا حتى يمل منا فيقفز هاربا مثل قط جموح .
إذن فما على المبدع إلا إن ينتظر إلهامه، يستعد لاستقباله كل يوم في ساعات محددة حتى لو أخلف الإلهام مواعيده في البدايات التي لم يعتد عليها بعد مع المبدعين.
ثانيا: أهم تعليمات في موضوع الكتابة الروائية
هي أنه لا تعليمات ولا يوجد قانون ولا قاعدة لكتابة عمل روائي، فكل عمل إبداعي هو جديد وعلى الأكاديميين أن يقبلوه وأن يفككوه وأن يستخرجوا قواعده الجديدة منه فالنظرية الأدبية المتعلقة بالنقد تأتي من تواجد العمل الإبداعي أولا و ليس العكس كما يفعل بعض النقاد قليلي الحيلة.
إنها مثل أسطورة الملك الكاهن والكاهن الملك في علم الميثولوجيا؛ فتربص الملك/ الكاهن الجديد بمن سبقه من ملك و كاهن هو ضروري لتواجد هكذا نظام؛ تماما مثل الناقد و المبدع .. في البدء يكون الإبداع ثم يأتي النقد المتغير دوما طبقا لنظرية أنت لا تنزل النهر الواحد مرتين لا، ماء جديد يجري من حولك باستمرار.
ثالثا علاقة الكتابة بفعل الحرية
لقد كافأتني الكتابة بأنها جعلتني أكثر صدقا مع نفسي وأكثر سلاما أيضا .
جعلت مني زوجا و أبا أضافت لي و لم تنقص مني فخلال النهارات الطوال في بيتي بأمستردام حيث “امتهنت ” الكتابة المنتظمة لأكثر من ثلاثين عاما عدا بضع شهور؛ أجلس خلف نافذة غرفتي وأراقب العالم المعزول عني.. أرى الطيور و الغيوم و المطر؛ فأسست عالمي، شخوصي وأحداثي؛ أمزج الاعترافات الشخصية بالخيال والسيرة الذاتية الفانتازيا، حتى أوصلتني في هذه المرحلة “النائية ” من عمري أن أتشجع فأبدأ كتابة سيرة ذاتية صادقة و حقيقية. أي إن الكتابة خلصتني من أقنعتي و جعلتني لا أخجل من أشياء فعلتها أو أريد أن أفعلها أو أواصل فعلها سرا.
أي إن الكتابة حررتني من ناحية و جعلتني مكتفيا بذاتي كما يقول أهل التصوف .
رابعا الرواية و الكتابة كقدر لا فكاك منه
في اللحظات الفارقة بين الحياة و الموت وعن تجربتي الشخصية في بيروت في يونيو 1982 إبان الغزو الإسرائيلي على لبنان مررت بلحظات فارقة بين الحياة والموت. كنت أجلس ليلا في شقتي القريبة من البحر في منطقة نزلة كاراكاس والدمار يحيط بي من كل جانب و أصوات القنابل المنطلقة من البحر تسيطر على الصمت الليلي. ساعتها قررت أن أرجع إلى مصر بعد غيبة متواصلة لاثنتي عشر سنة وكذا بعد انقطاع كامل عن الكتابة الإبداعية لأكثر من 12 سنة أيضا وفي تلك اللحظات الفارقة وأنا في الخامسة والأربعين اكتشفت شيئين هامين آنذاك ..أولا على أن أكف عن التجوال في العالم وثانيا أن علي أن أرجع للكتابة مرة أخرى بعد هكذا توقف .
قلت لنفسي ها أنا ما أزال حيا أرزق و لم أمت بعد.
هكذا قررت أن أبدأ من جديد وأن أواصل الحياة من جديد لكن بشكل مختلف. وقد نفذت ذلك القرار منذ عام 82 وحتى الآن بلا توقف إلا في النادر بسبب مرض أو سفر وبالتالي لم أخنها ولم تبادرني بخيانة (!) خلال ذلك أنجبنا بنتا وولدا في بيت مليء بالكتب و الروايات بما فيها روايات مترجمة لي (!)
المصدر: صفحة الكاتب على فيسبوك