ذكرى خالدة .. رغم 16 عاما من الغياب
محمد احفيظة
هذه المرة أكتب على الورق بحبر عاشق تعمدت أن أتجرد من قواعد كتابة المقال وأضعها نصب عيني وأتذكر ولادة أول عمل ليبي أطلت به علينا “الحب النقي” ومن هنا تعرفنا على “ذكرى محمد” وهي تعتبر من الفنانات القلائل اللاتي تمردت بداياتهن على نهايتهن سريعا، وأثبتت أنها صوت لا يعرف الاستسلام طوعا، لكن روحها استسلمت غدرا .
في يوم 28 نوفمبر عام 2003 وأثناء مشاهدتي لقناة روتانا بدأت النشرة الفنية المسائية، ويطل علينا المذيعين “فيني رومي، ماريال بعيني” ليفجرا الكارثة للمشاهدين، وهي خبر وفاة ذكرى محمد مقتولة في القاهرة، أتذكر وقتها خطفني الصمت لدقائق لأن الخبر غير متوقع ونزل علي كصاعقة وأصبحت أبحث عبر القنوات الأخرى عن خبر ينفي ما سمعت وكم تمنيت نوفمبر يكون أبريل أعلق على شماعته خبر وفاتها وأقول كذبة أبريل وأخرج من هذا الكابوس، لكن سرعان ما تصدر عناوين النشرات رحيل ذكرى محمد.
اليوم يمر على رحيلها ستة عشر عاما وكأنها غادرتنا البارحة أنا لا أكتب هذه السطور لأنه يصادف اليوم ذكرى وفاتها ولا أكتب لكي أوضح للعالم من تكون فهي تركت إرثا موسيقيا لا يعرف الزوال ذكرى سجلت في رصيدها 30 أغنية تونسية وبعد ذلك خاضت تجربة الغناء باللهجة الليبية بعد أن جمعتها الصدفة في سوريا عام 1984 مع الموسيقار خليفة الزليطني الذي كان له الفضل في اكتشاف ذكرى على مستوى ليبيا عرض عليها عملين أحدهما كان “الحب النقي” الذي كان من المفترض تغنيه الفنانة التونسية نجاة عطية بعد الاتفاق معه في تونس، لكن بعد أن التقى الزليطني بذكرى وسمع العمل بصوتها رأى أن اللحن مفصل على صوتها، فسجلت وصورت الأغنية في سوريا، ولاقت إعجابا كبيرا في ليبيا لتكون بعد ذلك “الحب النقي” بوابة العبور لذكرى في ليبيا وشاركت بها في الخيمة الغنائية في المغرب برفقة الفنان الراحل محمد حسن وبعد ذلك انطلقت وقدمت أعمال عديدة.
لم تنجح فقط في إتقان اللهجة، ذكرى نجحت في أداء اللون البدوي ونجحت في اختيار مواضيع أغنيتها فهي غنت أكثر من 70 عملا ليبيا وبهذا سجلت لها في التاريخ لتكون الصوت النسائي الوحيد الذي يمتلك 70 أغنية ليبية.
ليبيا بالنسبة لذكرى نقطة الارتكاز الرئيسية لمسيرتها ورغم أوج نجوميتها في العالم العربي بعد تجربتها في ليبيا إلا أنها لم تغب عن الجمهور الليبي كانت تأتي وتسجل الأغاني فهي غنت لكبار الشعراء والملحنين ودفعوا بها لتصبح رقما في الساحة الفنية في ليبيا.
لم يأت صوت يضاهي صوتها فهي كانت تملك أدوات نادرة، صوت مختلف وإحساس عالٍ وتكنيك موسيقي لا يستطيع أحد أن يقلدها. وعلى الرغم من أن الساحة الفنية شهدت تغيرات وتطورات وبرزت أسماء ونجوم جدد لكنها تظل الفنانة التي لا تعرف الغياب، فهي تجاوزت كونها أيقونة فنية لتصبح “معلمة في تاريخ الموسيقى الشرقية تخلدها الإذاعات والشاشات والمكاتب الموسيقية على حد سواء.
تجاربي مع أغاني ذكرى لا تحتمل مقالاً واحداً، لكن ممكن أن أختصرها بأنها على عكس علاقتي مع أغان أخرى أتعمد اختيارها في “البلاي ليست” نظراً لتشابه كلماتها وإحساسها لذوقي في الموسيقى وباختصار شديد لم أتخيل يوما الأغنية الليبية بدون صوتها ولطالما رفضت أن أضعه في خانة المقارنة والتصنيف أو أقلل من شأنها وأجعلها جواباً للسؤال الرتيب الذي يتكرر: من أكثر مطرب أو مطربة تفضل؟ ذكرى خالدة في داخلنا لا محالة ذكرى التي أحيت حفلات في طرابلس وغنت في بنغازي وفِي الجنوب حتى الجيل الجديد الذي لم يعاصر أغنيتها أراه يخصص مكانا لها وكأننا نرث حبها من أهلنا وبفطرة تراثنا.
رغم رحيلها الأبدي جسدا إلا أني أرى الحلم والأمل والحياة تعيش في أغانيها وأرصد شجنها المخفي وراء النوتة والمقامات الموسيقية، ولكن تظل ذكرى خالدة ثارت على الحب والجرح والشوق والفراق والحياة بصوتها المختلف ها هي تمر اليوم ستة عشر عاما تسجل غياب الجسد وتسجل روحها الحضور.