ديمقراطية برائحة البارود
طه البوسيفي
في ليبيا لا تسير الأمور وفق قواعد موضوعة مسبقاً تطبق بحذافيرها ولا يتم الخروج عنها قيد أنملة، الديمقراطية مثلاً مرت بفترات مختلفة بين الانسيابية والاضطراب ، بين التقديس والتهميش ، سارت بثبات وبترنح ، وأخذت كذلك في فترة وجودها أشكالاً متعددة .
ظلت الديمقراطية برغم جميع التحولات عبر العصور صامدة وحاضرةً في وجه كل المتغيرات التي تصيب الأمم ، زالت ممالك وأنظمة وحكومات ، وظلت هذه التجربة الإنسانية الفريدة في نوعيتها باقية وتتمدد ، الديمقراطية قيل عنها إنها من أعظم ما أنجز الإنسان خدمةً لبقائه لأنه تناول مسألةً في غاية التعقيد، فلم يُسَلَّ سيفٌ كما سُلَّ في مسائلِ السلطة وشؤون الرياسة ، الحكم حسناء مغرية تثيرك للمغامرة .
الديمقراطية جاءت لتنظم تحركات القوى التي تسعى للوصول إلى السلطة عبر جملةٍ من الضوابط والشروط والمعايير ، وتسعى كذلك للحفاظ على سلامة البشرية من الاحتراب والاقتتال والغدر ، قد يرد عليّ شخص ويقول: إن العالم قد شهد حروباً لا حصر لها تتعلق بالسلطة ، في كل الأزمان ، وكل الديانات وباسم المقدس أحياناً ، فلماذا لم تعمل الديمقراطية هنا على الوجه الأمثل الذي يمنع هذا الصدام ؟ أجيب بفرضية أراها منطقية وهي أنه لو لم يكن هنالك نظام ديمقراطي ينظم عملية التداول على السلطة بمعنى الآليات لا بمعنى منازعة الإله في سلطانه كما يفسرها بعضٌ من أصحاب التوجه الديني لكنا رأينا مجازر أفحش وقتلاً أفظع وجرائم يصعب على العقل البشري أن يستوعبها .
مرت ليبيا بمخاض عسير عام 2011، وليس هذا المقال المتواضع مقاماً للخوض في الأسباب والمآلات ، ولكن الشكل الحديث للديمقراطية قد وصل إلى ليبيا ودخلت فيه ودخل فيها ، فعلُ انصهارٍ كان يمكن أن ينتج شكلاً جميلاً يجنب البلاد كثيراً من الفوضى ويسهل أيضاً عملية الوصول لما بات يعرف ببر الأمان .
رأينا في ليبيا بعد عقود شكلاً جديداً من نظام الحكم_ بعيداً عن السلطة الشعبية وأفكار العقيد_ يحاول أن ينظم العلاقة بين السلطة وبين العامة بين القاعدة ورأس الهرم على اعتبار أن هذا النموذج هو أبدع ما خلق الإنسان ، اليوم عمر هذا النموذج في ليبيا سبع سنوات أو أكثر بحسب عداد الحركة وما زلنا نرى تخبطاً ، نرى مهازلاً ، نرى إسفافاً ، نرى تمثيلاً سيئاً وأشخاصاً لا يملؤون الفراغات التي يجب أن تُملأ في قوالب العملية السياسية، رأينا أسوء ممثلين لأعدل القضايا حتى بلغ الأمر حد تجويع الليبيين واستغلال ثرواتهم كأوراقٍ سياسية وأدوات للتفاوض تخلق مساحة أكبر للتحرك سياسياً لضمان مزيد من النهش والنهب والقضم في خارطة الوطن .
ليس هذا فحسب بل رأينا إغلاقًا متكرراً ومنعاً لعقد جلسات البرلمان ، برلمان الشعب المنتخب المنتهي الولاية وفاقد الصلاحية والميت سريرياً (حقيقةً وليس على غرار إشاعة موت حفتر). البرلمان الذي إن هل هلاله فقطعاً كي تكون القاعة ساحة نزال ، وعراك ، وتخوين ، وإثباتاً بأن بعض الأعضاء تفننوا في الغياب والمكر والرضاعة من تحت الشمال !!!
ليس هذا فحسب أيضاً ، رأينا في آخر جلسة صداماً ومشاجرةً بدأت بالأيدي بين الأمن الرئاسي وسرية حماية رئيس مجلس النواب !! وهنا ربما نتناول المسألة بحيالها في مقالة أخرى عن حاجة عقيلة لسرية كي تحميه وفي طبرق !! نعود : تطورت الحالة إلى صدام أدى إلى إطلاقٍ للنار داخل حرم مجلس النواب بين المجموعتين ، أصيبَ نائبٌ ولم يتم التصويت على مشروع قانون الاستفتاء ، لا أشير هنا إلى قصدية الحادث لكنه في نهاية المطاف قد حقق غرض ما أراد العرقلة عبر الغياب والتأجيل بدعوى تحصيل العلم في هولندا !!
قبة البرلمان الذي يفترض أن يكون براحاً للعمل الديمقراطي الذي يصب في صالح حفظ السلطة وأمان المواطن لم يعد كذلك ـ فهو ما عاد_ إن هو كان بالأساس_ مكاناً لتطبيق هذا النموذج البشري الذي يحاول دائماً أن يمنع أي صدامٍ يؤدي إلى سفك الدماء وإتلاف الممتكلات وإحراق الحرث والنسل ، وجود مجلس النواب خطورةٌ قد تكون أشد على المواطن من خطورة مغادرته ومجيء آخرين لا نعلم عنهم شيئاً يجربون تحقيق طموحهم وممارسة عقدهم في شعبنا الغلبان !!