دودة اسمها الوطن
سالم العوكلي
التقيت بصديق أمام المخبز ونصحني قائلا: أتابع ما تكتبه.. أنت شاعر لماذا لا تتفرغ للشعر وتبتعد عن السياسة ومشاكلها؟ تقبلت نصيحته، وقلت له: أولا، السياسة هي التي جمعتني بك أمام هذا المخبز، ولا نعرف ما إذا كنا سنحصل على خبز أو نعود خاليي الوفاض، وعموما هذا ما يسمونه (بعيدا عنك) دودة، وأنا لم أهتم بالشأن العام بعد فبراير ولكن قبل ذلك بكثير كنت أكتب آرائي حيال الكثير من القضايا ولا أعرف إن كان صائبا أو مخطئا. وربما هذه الدودة ورثتها جينيا، لأنها نفسها التي جعلت في العام 1911 اثنين من أعمامي، حسين مفتاح محارب، ومحمود محارب يذهبان مشيا على الأقدام من القيقب إلى درنة مسافة 80 كم من أجل أن يدافعا عن درنة التي نزل في مينائها الغزاة الطليان، ولقيا مصرعهما في معركة القرقف، وربما البعض قال وقتها: وماذا استفادا وقد تمكن الطليان في النهاية من الوطن وتكيف الكثير من الليبيين مع الاحتلال بعد أن قضى على المقاومة؟ حسنا هما فعلا في تلك اللحظة ما رأيا أنه صحيح وواجب، وكل من اختاروا طريق المقاومة في ذلك الوقت مع عمر المختار كانوا يرون أن هذا هو الصحيح رغم كل الأصوات من خارج وداخل ليبيا التي كانت تصفهم بالمجانين وهم يقاومون بأقل الإمكانات جيش موسيليني الجرار، أو تصفهم بالمتمردين أو المخربين، وصاحب المختار الذي تربى معه، الشارف الغرياني، جاء من طرابلس ونصح عمر المختار بالاستسلام لأنه لا حِمَل له بهذه القوة وأنه أتعب الناس وضيّع الكثير من الشباب، لكنهم فعلوا ما كانوا يرون أنه الصواب، ولا أعرف؛ ربما لو انتصر عمر المختار وأصبح حاكما لليبيا لتحول إلى طاغية كما يتحول عادة الثوار أو العسكريون، لكن هذا الاحتمال المستبعد ما كان ليوقف ما كان يعتقد أنه الواجب وقتها، رغم أن هذا الاحتمال حصل عبر عسكري مغامر انقلب على الملكية واتخذ عمر المختار رمزا له، واعتبر نفسه وريثه، ووضع صورته على العملة، ليبني فاشية محلية أنكى من الفاشية التي قاومها رمزه التاريخي.
تصلني أيضا بعض البيانات من بعض المثقفين والكتاب تطالب بوقف الحرب الدائرة على تخوم طرابلس، من أجل أن أوقع عليها، لكني لم أتكبد حتى عناء قراءتها، والسبب أن الحرب مستمرة منذ سنوات فوق رؤوسنا هنا، وقذائف المجموعات المدعومة من حكومات طرابلس ومصراتة كانت تنزل عشوائيا على البيوت وعلى ساحات التظاهرات التي تطالب بالجيش والشرطة وعلى القرى المتاخمة لدرنة، وضحاياها بالعشرات يوميا، ولم يتوقف الدعم لهذه الجماعات المتطرفة والإجرامية من قبل النافذين في العاصمة ومصراتة، ولم نفكر في توزيع بيان ضد تلك الحرب لأننا نعرف أنها كانت ضرورية من أجل بقائنا ومن أجل أن تنتزع الدولة من مخالب الإرهابيين، ومن جانب آخر لم يكتب أحد من هؤلاء الذين يريدون أن أوقع معهم سطرا على صفحته يدين الحرب التي كانت هنا فوق رؤوسنا أو يدين القتل المستمر من قبل هذه الجماعات لعدة سنين، وكأن تلك الحرب كانت قائمة في الصومال أو جزر الهونولولو. ورغم ذلك فلا أحد يتمنى الحرب شرط أن يكون في الأفق أي بديل لها لنزع سلاح هذه الجماعات المارقة والاعتراف بمؤسسات عسكرية وأمنية شرعية تحتكر حمل السلاح واستخدام القوة.
لا يمكنني الآن إلا أن انحاز إلى الجيش الليبي الذي نال الشرعية من السلطة الشرعية، لأني أرى أن هذا هو الموقف الصحيح، والبلد يتهددها تيار تكفيري سيحيل ليبيا إلى جحيم حقيقي لو تحكم، ويجعلها مثل أفغانستان فترة حكم طالبان، خصوصا أن من تقلدوا مناصب حساسة في الأجهزة الأمنية والعسكرية في ظل المؤتمر الوطني معظمهم قادم من حرب أفغانستان. أما الخوف من عسكرة الدولة فلا علاقة له بالمطالبة بتأسيس جيش يحمي البلد وينزع السلاح من أيدي العصابات التي تعيث في البلد فسادا وتقتيلا، كما أن ما يعتري الجيش في إعادة بنائه وهو يخوض حربا من مشاكل أو عدم انضباط أو حاجته لقوة مساندة أو غيرها، لا يعني أن نكون ضد هذا الجيش، خصوصا وتأسيسه تم عن طريق آليات دستورية وقانونية وفق ما أفرزه المسار الليبي ووفق الإعلان الدستوري والقوانين المنظمة، ولو أن أول سلطة تشريعية منتخبة (المؤتمر الوطني) باشرت في بناء المؤسسة العسكرية والأمنية بدل القوات الموازية التي يتزعمها مدنيون، بعضهم جهاديون، مثل قوات درع ليبيا، واللجنة الأمنية العليا، لكان تأسس جيش وطني في ظل السياسيين وتحت السلطة المدنية ووفرنا هذا التمدد للجماعات المسلحة، واتقينا شر تدخل الأعداء والأصدقاء، ووفرنا هذه الحروب المؤلمة، ولأصبح الأبطال هم الساسة الذين أعادوا بناء الدولة ومؤسساتها العسكرية والأمنية والمدنية، ولأصبح الجيش مثله مثل أية مؤسسة يقودها مختصون قد لا نسمع بأسمائهم، لكن بصراحة هذا هو المسار المنحرف الذي اختارته كتلة الإسلام السياسي المتوجسة تاريخيا من أشباح المؤسسة العسكرية والأمنية، لأن حروبها السابقة كانت مع هذه المؤسسات التي كانت ترى في قيامها تهديدا لمصالحها ولمخططات تحكمها في الدولة والمجتمع عبر احتكار السلاح والمال.
ما كنت أتمنى أن تنجر بعض النخب لمعارضة الجيش بحجة الخوف من عسكرة الدولة، وهي الحجة التي يروج لها الإسلام السياسي كي يحشد التيارات المدنية في معارضته للجيش كعدو تاريخي له، بينما من يؤمن بالدولة المدنية يعرف أن لا دولة مدنية أو ديمقراطية يمكن أن تقوم دون جيش يحمي حدودها ومصادر رزقها، وسلطات قضائية مستقلة بكل أجهزتها النيابية والشرطية تحمي المواطن وتحمي القانون والدستور. هذا هو المبدأ الأساسي وحين يحدث انحراف فهذا من طبيعة المراحل الانتقالية التي يتكالب فيها الجميع على السلطة، عسكريين ومدنيين، لأن الخوف من حكم العسكر هو خوف من الدكتاتورية ، وأعتى الدكتاتوريات أوجدها أيضا طغاة مدنيون، ولا عاصم منها سوى وعي الشعب وقدرته عبر الحشد على أن يمنع عودة الدكتاتورية، مدنية أو عسكرية، كما يحدث الآن في الجزائر والسودان، فعبدالرحمن سوار الذهب حين انقلب على الرئيس النميري سلم السلطة عبر الانتخابات للمدنيين للشروع في بناء دولتهم المدنية الديمقراطية، لكن الدكتاتورية عادت من جديد، وستظل تعود طالما لا يوجد شارع قوي ومجتمع قادر على أن يحمي دستوره ومؤسساته الديمقراطية، والآن يستفيد السودانيون من تلك التجربة ويعملون على أن لا تتكرر، لأن ما حدث في المنطقة أيقظ ثقة الشعوب في قدرتها على التغيير وتحديد مصائرها وصنع التاريخ.