دفاعا عن الحَمَام
عمر أبو القاسم الككلي
جيمس ثِربِر قصاص أمريكي مرموق. بل متفرد. حتى أن إحدى المطبوعات الأمريكية لم تجد وصفا له أبلغ من جملة تحصيل الحاصل: “ثربر هو ثربر”. ثِربر هذا، وفي حدود علمي طبعا، غير معروف في العربية، وقد أكون الوحيد الذي ترجم له بضع قصص.
إحدى هذه القصص التي ترجمتها عنوانها “توجد بومة في غرفتي”. ورغم أن القصة أعجبتني جدا من الناحية الجمالية (فأنا لا أترجم ما لا يعجبني) إلا أنني أعارضه فيها على طول الخط، تقريبا. أو، بالمصطلحات القانونية، قبلتها “شكلا” (= جماليا) وأعارضها “مضمونا”، أي أعارض “رسالتها”.
السيد جيمس ثِربر (الذي أنا معجب بكتابته أيما إعجاب، حتى ما أعارض محموله منها) والمشتهر بروح دعابة عذبة فياضة، استغل موهبته وقدرته هذه، في هذه القصة، ليشن هجوما ضاريا ولا مبرر له، على كائن جميل الشكل، نبيل السلوك، مسالم وأنوف، ألا وهو الحمام!.
لست أدري إن كان أحد قبلي قد تصدى لهذا التعدي المكشوف الذي قام به ثربر، بكل ما يملك من عتاد ومواهب، على هذا الكائن الكريم، أم لا. لكن، وأيا كان الأمر، فقد انتدبت نفسي وكيلا عن الحمام وحليفا له في التصدي لهذا العدوان. وفي جميع الأحوال، فأنا لا أقل عن جيمس ثربر هذا في فيض الدعابة العذبة وجلاء الموهبة وحدة الذهن، وكون لم يخطر لمطبوعة ليبية أن تقول عني: “عمر أبو القاسم الككلي هو عمر أبو القاسم الككلي” فهذا لا ينقص من قيمتي، ولا يجردني من مواهبي.
قد يجادل أحدهم، بحسن نية وإيثارا للسلام بين كاتبي قصة موهوبين، في جدوى ردي على كاتب غائب عن الحياة منذ واحدة وخمسين سنة!. إذ إن جيمس ثربر ولد سنة 1894 وغادر الدنيا سنة 1961. وأن هذا ليس من العدل في شيء، لأن السيد جيمس ثربر لا يمكنه، في حالته هذه، القيام بالرد عليَّ والدفاع عن أُطروحته. ودحضي لهذه الحجة يتخذ سبيلين: 1) سبيلا مبدئيا عاما، وهو أنه مازال هناك من يرد على أفلاطون أو أرسطو وينتقدهما ويفند منطلقاتهما، ذلك لأن فلسفتيهما مازالتا ساريتين وفاعلتين في المناخ الفلسفي العام في العالم. و 2) ينطبق الشيء نفسه على جيمس ثربر. فقصته مازالت متداولة وتترجم إلى لغات عديدة (من ضمنها اللغة العربية التي كان لي أنا فضل ترجمتها إليها). وإذا كان من غير الممكن لثربر، بسبب غيابه من على وجه البسيطة، الرد على حججي، فمن المرجح أن يوجد له أنصار يتبنون موقفه العدائي هذا من الحمام ويمكنهم النيابة عنه.
لا علم لي بمدى معرفة ثربر وخبرته في الاستراتيجيات والحيل [التكتيكات] العسكرية، ولكن ينبغي التأكيد هنا على أنه اتبع في هجومه على الحمام حيلة باهرة. فهو لم يتبن استراتيجية تدعو إلى محاربة الحمام أو إبادته، وسكت عن أن الحمام يحظى بنوع من القداسة في المسيحية، كما أمسك عن تناول مأثرة الحمام كساعي بريد قديم (الحمام الزاجل). وغض النظر عن جماليته ورمزيته وتغلغله في الثقافة الإنسانية العامة (دوره في أساطير النار لدى بعض الشعوب). لقد كان من الذكاء بحيث يسكت عن هذا كله، أي أنه لم يفتح جبهة واسعة في هجومه، ويختار سبيلا ضيقة لمهاجمة الحمام يتوقع أن لا أحد يستطيع التصدي له فيها. وهذه السبيل، التي اختارها للهجوم على الحمام، تتمثل في أنه أنكر عليه فضيلة إثارة العواطف لدى من يشاهده، وبالذات الأسى، إلى درجة أنه يفضل عليه، في هذه المسألة، (أنبوبا حديديا أحمر واجما ضخما يزحف إلى الأعلى على جانب البناية بهدف التسلل إلى مدخنة سكرى قليلا تمد رأسها متباهية)!.
دائما أتجنب في نقاشاتي استعمال عبارات حادة كالشفرة، وأميل إلى استعمال أكثر التعابير رصانة ونعومة، بالقدر الذي يسمح به السياق طبعا، لذا لن أمضي إلى القول: أي عاقل يقبل هذا الكلام! مكتفيا بالقول، بدلا من ذلك، من يرضى بهذا الكلام!.
عموما، سنحاول حشد ذكائنا وقدرات المواجهة لدينا والتصدي لجيمس ثربر على نفس الحلبة الضيقة التي اختارها. وفعلنا هذا لا يعني أن ثربر استدرجنا إلى أن تكون معركتنا معه على الميدان الذي حدده. على الإطلاق. ذلك أنه كان لا يتوقع أن يواجه مجابهة من أي نوع. وبالتالي نعتبر نحن من حدد ميدان المواجهة.
لكن، لنعد إلى بداية قصة جيمس ثربر المشار إليها والتي يهاجم فيه الحمام.
يعلق ثربر على مقطع شهير من تأليف غرترود شتاين سمعها تقرأه في شريط إخباري يتحدث عن “أسى الحمائم فوق العشب “pigeons on the grass, alas” 1. وبعد قراءتها قالت، ودائما حسب رواية ثربر، لأنني شخصيا لم أشاهد الشريط الإخباري محل الحديث: “هذا وصف محايد لمنظر بري شاهدته عدة مرات.”. فيقول: “أنا لا أصدق بأن هذا حقيقي. أسى الحمائم فوق العشب يمكن أن يكون وصفا محايدا لشعور الآنسة شتاين نفسها، ولكنه ليس وصفا محايدا لمساحة من العشب حطت عليها الحمائم، مازالت تحط عليها، أو سوف تحط عليها. وصف حقيقي محايد لحمائم تحط في حدائق لوكسمبرغ2 (التي أعتقد أن الحمائم حطت عليها) سيتحدث عن الحمائم وهي تحط هناك فقط بوصفها حمائم تحط. الحمائم التي تحط في أي مكان ليست حمائم حزينة ولا حمائم مبتهجة، إنها، ببساطة، حمائم”.
من حيث المبدأ، هذا كلام يحوز، بالنسبة إليَّ، فضيلتي الجمال والإقناع، لو أن ثربر عممه على الكائنات الأخرى أو، على الأقل، على عدد منها. أما أن يخص بها الحمام وحده معزولا ومفردا ومفصولا في طائفة ليس فيها سواه، فهذا هو الجور بعينيه. فهو يقول: “الأرانب البيضاء، نعم، والترير3 الاسكتلندي، أبو زُرِّيق، وحتى فرس النهر، ولكن ليس الحمائم”! ولكي يعطي كلامه دعامة تسنده يقول: “لقد سبق لي وأن درست الحمائم عن كثب وبعناية، ولقد درست تأثير، أو بالأحرى عدم تأثير، الحمائم بعناية شديدة. عددا من الحمائم تحط على قاعدة نافذتي بالفندق و أنا أتناول فطوري وأحدق خارج النافذة. لم تُؤْسِني أبدا، لم تجعلني أشعر بالأسى أبدا، لم تجعلني أشعر بأي شيء”. ويقول: “ما من عاطفة عند طير الحمام ولا قدرة على إثارة العاطفة” ويمعن في القول: “لا أحد ولا حيوان ولا طير آخر يمكنه أن يؤدي مشهدا بهذا الفشل بقدر ما يستطيع طيرالحمام”. و: “ما من شيء آخر في العالم يخفق بهذا القدر في فعل ما لا يستطيع فعله مثلما هو الحال مع طير الحمام. وأيضا في فعل ما يستطيع فعله، إلى ذلك الحد”.
بالطبع، لن أعيد هنا نسخ معظم قصة ثربر شنيعة المحمول هذه، وعلى من يرغب في الاطلاع عليها كاملة أن يبحث عنها في لغتها الأصلية أو بترجمتنا.
يحاول جيمس ثربر أن يقدم لنا نفسه على أنه خبير ومرجع في الحمام من خلال ملاحظة الحمائم التي تحط على شرفته وقت إفطاره في الفندق!.
إذن ماذا أقول أنا عن نفسي الذي كنت أشاهد الحمام البري في طفولتي وأنصب له الفخاخ وأفاجئه في أعشاشه، وربيته فترة في صباي، ومازلت أشاهده الآن شبه يوميا على شرفتي أوائل الصباح!.
كما أشرنا، سينصب نقاشنا، بالأحرى دفاعنا، على المسألة التي ينكرها ثربر على الحمام، وهي: قدرته على إثارة العواطف.
وسنبدأ بجمال هيئة الحمام وبساطة سلوكه، والانتباه إلى جمال الهيئة وبساطة السلوك لدى كائن ما هو شكل من أشكال الاستجابة العاطفية. ولعل هذا ما دعا المسيح إلى إطلاق دعوته المشهورة: “كونوا بسطاء كالحمام”.
يتميز الحمام أيضا بجمال المشية، فالحمائم تمشي مشية هادئة واثقة جعلت الغراب، حسب الخرافة الشعبية، يؤخذ بها ويحاول تقليدها. وبغض النظر عن أنه فشل في ذلك، يحمد له حسه الجمالي المرهف.
طبعا هذه خرافة وليست واقعة فعلية، لكننا نعتبرها في حكم الواقعة الفعلية حين نجريدها من المجازية. أي أنها مجاز يعبر عن مشاعر فعلية أثارتها مشية الحمام في البشر، ما دفع بعضهم لتأليف هذه الحكاية. فهي، إذن، تصوير مجازي لمشاعر واقعية. يؤيد هذا استمرار تدوالها.
في الجامعة لفتت نظري طالبة تمشي مشية الحمامة، فكنت دائما، عندما أراها، أتأملها وهي تمشي متمهلة متهادية في ثقة وكبرياء، محتضنة كتبها على حمامتي صدرها وحقيبتها النسائة تتدلى على جانبها الأيسر. يبدو أنها تدربت على هذه المشية بعزم وتقصد. وبذا أصبحت جزءا من شخصيتها، ولم يحدث لها ما حدث للغراب المسكين.
في فترة ارتداء النساء الليبيات اللحاف التقليدي (= الفراشية) كان النوع المنتشر منها هو ذو اللون الأبيض الصافي. وكانت الليبيا يتأنقن في ارتدائه ويعتنين بنظافته ولمعانه، فكان الليبيون يطلقون عليهن تعبير “الحمائم البيضاء”.
مثال آخر مهم جدا في سياق نقاشنا هذا، وهو اليمامة المسماة “يمامة الحداد mourning dove”. وأهمية هذا المثال تتمثل في جانبين. الجانب الأول أن هذا النوع من اليمام ينتشر ويكثر في أمريكا الشمالية، موطن السيد ثربر، والجانب الثاني هو لفظة “الحداد” المضافة إلى اسمها. ذلك أن ثربر يركز على انعدام العلاقة بين الحمام والأسى. أفليس الحداد رديف الحزن والأسى؟!.
ماذا يسمي السيد ثربر كل ما ذكرناه إن لم يكن استجابة عاطفية؟!.
وإذا كان السيد ثربر اعتبر شعور غرترود “وصفا محايدا” خاصا بها هي نفسها، وربما اعتبر مشاعر الغراب والمسيح ومشاعر الليبيين الذين أطلقوا على الليبيات الملتحفات بالأبيض “الحمائم البيضاء” ومشاعر أهل أمريكا الشمالية الذين أطلقوا على نوع من اليمام الشائع لديهم “يمام الحداد”، ومشاعري أنا والفتاة التي يبدو أنها أُخذت بجمال مشية الحمام وتدربت على امتصاصها في شخصيتها منذ نعومة أظفارها، في نفس المستوى الذي وضع فيه مشاعر شتاين، فبأي حق يريدنا أن نعتبر مشاعره هو مشاعر تنطبق على الناس قاطبة.
1- “حمائم فوق العشب، يا للأسى!”
2- لمز غير مفهوم من قناة غرترود شتاين، لأنها كانت تعيش في باريس.
3- terrier كلب صغير نشيط ذكي من كلاب الصيد( المورد).