“داعش” و”الخلافة”: شهادة وفاة مؤقتة!
يوسف الديني
هل يمكن القول: إننا الآن نعيش حالة ما بعد «داعش»؟ سؤال الأسئلة هذه الأيام بعد الهزائم المتلاحقة للتنظيم في مناطق التوتر بالعراق وسوريا بعد أن أعلنت الحكومة العراقية ولو بشكل استباقي إلى حد الآن نهاية التنظيم بعد هزيمته في الموصل وفرار عدد من قيادييه والأنباء المتضاربة بشأن خليفته المزعوم أبو بكر البغدادي. الإجابة عن هذا السؤال تفترض أسئلة أخرى لمحاولة فهم ما يحدث تبدأ بمعنى الهزيمة وطبيعة التنظيمات الإرهابية التي لطالما فاجأتنا منذ مرحلة أفغانستان ونشأة «القاعدة» ثم تحولها إلى تيار معولم وصولاً إلى ظاهرة «داعش» وتشظياتها لتتجاوز المسميات إلى الفكرة الأساسية وهي بقاء فعالية القتال المسلح بشعارات دينية وطائفية ضد الغرب تارة وضد الأنظمة مرة أخرى وضد نفسها.
من هنا تبدو معيارية الانتصار على جيوب إرهابية لهذا التنظيم أو ذاك يجب ألا تجعلنا نتسرع في الاغتباط بإعلان نهاية تنظيمات إرهابية أخبرنا الواقع منذ نشأتها الحديثة أنها قادرة على تجديد نفسها، وأنها وإن قمعت على الأرض؛ ما زالت فاعلة على مستوى أدواتها الإعلامية ومخرجاتها التعبوية على الإنترنت، لا سيما بعد أن انتقلت منذ سنوات طويلة من فكرة البناء الهرمي التنظيمي إلى الانتشار عبر مجموعات صغيرة لتتخلى عن ذلك مجدداً وتنتقل إلى فكرة أكثر تعقيداً وهو التجنيد الفردي لما بات يعرف بالذئاب المنفردة.
اليوم تشتغل التنظيمات الإرهابية على استراتيجية جديدة وهي فك الارتباط عن مناطق التوتر والانتعاش في مناطق لا يفكر فيها كعودة «القاعدة» و«داعش» إلى اليمن وانتشار الأخيرة في القارة الهندية والصومال وشمال أفريقيا ودول أميركا اللاتينية، ويمكن العودة إلى آخر إصدار من نشرة «النبأ» الصادرة عن ديوان الإعلام المركزي لـ«داعش» قبل أيام، لنلحظ انتقال الاستراتيجية الإعلامية في تغطية أحداث الولايات التابعة للخلافة المزعومة في مناطق التوتر إلى الحديث عن قيادات وتراجم لأسماء وأعلام في مناطق جديدة وهو ما يعني إيصال رسالة واضحة مفادها أن الهزيمة في مناطق التوتر ليست سوى خسارة الخلافة على الأرض، وإعادة تدشينها افتراضياً على مواقع الإنترنت وعبر الولاء العابر للحدود مسنودة بماكينة إعلامية ضخمة تنتج التقارير والمجلات والفيديوهات حتى بلغات غير حيّة لتأكيد انتشارها أمام خصومها وبهدف المزيد من عملية الاستقطاب والتجنيد، بالطبع والحديث هنا عن بقاء وضخ مجموعات وقيادات وكوادر فاعلة للتنظيم، أما الحديث عن الفكرة وبقائها فهو متصل بظروف وسياقات فكرية واجتماعية ما زالت عوامل إنتاجها أكبر بكثير من كل الفعاليات المضادة رغم الجهود الدولية الجماعية والفريدة لمكافحة الظاهرة.
واستناداً إلى حوار مهم مع الخبير الدولي بريغ باركر المتخصص في علم النفس العنفي عبر دراسات مطولة عن الإرهاب العالمي وطرائق فهمه والتعامل معه، فإن المعركة مع الإرهاب اليوم لا يمكن حصرها في الجانب الأمني العسكري، بل هي حرب أفكار واستراتيجيات بالدرجة الأولى خلال الفترة الماضية تم رصد أكثر من 60 هجوماً في 17 دولة بعدد ضحايا يفوق 600 شخص، وهو رقم مروع ومفزع يجب ألا يقودنا إلى الاحتفال الذي نشهده هذه الأيام، فمعدل تجنيد الكوادر الإرهابية في الأعوام القليلة الماضية ارتفع إلى ما يفوق 30 ألف مقاتل مهووس بالفكرة المسيطرة ينتمون إلى معظم دول العالم تقريباً، وهي بحسب باركر «سلالة عنفية غير متوقعة» تلعب على النفاذ من الثغرات في الخلاف الدولي حول الحرب على الإرهاب وأمن الحدود والتعاون المشترك لا سيما في المجال الاستخباراتي، هذا عدا الملفات السياسية العالقة وصعود الطائفية المضادة والميليشيات التي تلبّست منطق الدولة في مواقع مختلفة بحجة مقارعة التنظيمات الإرهابية بعد أن تراجعت أدوار المبعوثين الدوليين وحتى القوات الغربية الأميركية تحديداً بعد سحب أوباما للقوات والتي تتعامل مع ملف الإرهاب على طريقة الجراحة المؤقتة والتدخل السريع.
واحد من التحولات الكبرى في عالم الإرهاب اليوم والتي لا يجري الحديث عنها، انتقال العقل الإرهابي من مرحلة التنظيم الشبكي المبني على مرجعية شرعية مستقرة نسبياً ترفع شعارات ذات طابع ديني، إلا أن دخول «الإرهاب الفوضوي» الذي يقود زمامه «داعش» وأخواته الآن هو تغير في المعادلة الداخلية لخريطة الإرهاب ورموزه ومقولاته ووعوده وجدله الداخلي.
الإرهاب نتيجة ومحصلة سهلة النفاذ لاختطاف الشباب المستلب فكرياً لمفاهيم راديكالية عنفية تجعله يفكر في الخلاص الآني وتعده بالتغيير السريع وتقدم له العالم عبر نظارات سوداء تجاه نفسه ومجتمعه في ظل حالة الإهمال لخطاب العنف والتشدد الديني والطائفية وغياب المعنى، وهي مداخل نفسية تصنع شخصيات جاهزة لكي تتلقفها التنظيمات الإرهابية مع أول خلوة معها في مواقع التواصل الاجتماعي دون أن تحتاج إلى جهد كبير في بسط قناعات دينية أو حجج سوى اللعب على الجانب النفسي وأزمة الاندماج التي باتت مشكلة عالمية الاندماج في مفهوم المواطنة والعيش المشترك، ويزداد الأمر سوءاً وهو أمر تعاني منه معظم مجتمعات العالم في ظل العولمة التي كرست الفردانية وأسهمت ثورة الاتصال رغم كل إيجابياتها في عزلته ومن دون العمل المضني المشترك الذي يتعاضد فيه العالم كله لإيقاف الدافع الأساسي وهو «الفكرة العنفية المسيطرة» لتغيير الواقع واستبداله من خلال واقع متخيّل وتحقيقه على الأرض بشكل قسري.
«التأقلم الإرهابي» هو ما يمكن أن نتوقعه من تنظيم بحجم «داعش» والانتقال للاستراتيجية التي يعلنها في مدوناته من أسلوب الكر والفرّ والاهتمام بالتجنيد والتعبئة لتغطية هزائمه على الأرض والتي يرجع جزء منها إلى الحرب العسكرية ضده، لكنّ جزءاً أكبر يعود إلى حالة الحرب الداخلية بينه وبين تنظيم «القاعدة» ومحاولة كلا التنظيمين اختطاف كعكة الشرعية «الجهادية» وهي مسألة لم تحسم بعد.
العودة إلى الوراء قليلاً تقودنا إلى حتمية مفادها أن خسارة جبهات القتال لا يعني نهاية تهديد الإرهاب كفكرة ما زالت تتغذى على عوامل إنتاجها وأهمها الجوانب الفكرية بالدرجة الأولى في عالم يشهد نكوصاً في حالة التسامح بمعناها الإنساني والقيمي.