نشرت صحيفة “دي غارديان” صباح اليوم تقريراً للصحفية “فرنشيسكا ما نوتشي” التي كانت في زيارة إلى طرابلس منتصف نوفمبر الماضي، دونت خلالها الكثير من الملاحظات التي كانت أساس مقالها المنشور تحت عنوان ” داخل الفوضى والفساد في طرابلس، حيث تسيطر الميليشيات على الشوارع”.
تصف الصحفية زيارتها إلى طرابلس بالشاقة، كما تعبر عن مشاهداتها بشيء من السواد، ربما لتزامن هذه الزيارة مع نهايات الحرب التي اندلعت جنوب طرابلس خلال أغسطس الماضي، وما خلفته من آثار للدمار والخراب ظل شاهداً يخبر الزوار بكل ما حدث ودار.
الصحفية فرنشيسكا على ما يبدو أنها لم تحظَ بفرصة كافية لتتطلع على كل ما يدور في العاصمة، ولم تحظَ بزيارة الكثير من المناطق والأحياء فيها، كما لم تتمكن من فرط الرقابة من إجراء مقابلات عفوية مع العامة ترصد انطباعاتهم بكل صراحة حول حقيقة ما يجري.
الظروف الصعبة التي أحاطت بالصحفية خلال زيارتها جعلت من تقريرها إحادي المسار، ضيق الدروب، يفتقر للمعلومات الكافية التي تمنحها تكوين صورة متكاملة تشخص على ضوئها الحالة الليبية أو جزء منها على الاقل.
كما أن حدية المعاملة التي واجهتها من المرافقين المكلفين من الجهة الرقابية المسؤولة، أثرت سلباً على أداء فرنشيسكا الصحفي وأوقعتها في شباك العاطفة التي تجلت بوضوح في كلماتها المنتقاة بعناية التي تضمنها التقرير كما يلي نصه.
الرحلة بالسيارة عبر ضواحي طرابلس الجنوبية، تنقل المسافرين الخائفين عبر الدمار الذي أحدثته المعركة الأخيرة بين المليشيات حول حطام الحرب الأهلية في ليبيا.
هناك منازل محطمة، وشوارع مليئة بالركام بفعل انفجارات قذاف الدبابات والصواريخ أثناء القتال الأخير في سبتمبر. ويقارن البعض طرابلس التي تسيطر عليها المجموعات المسلحة بمدينة شيكاغو عندما سيطرت عليها عصابة آل كابوني، لكن المقارنة خاطئة: فلم يكن لدي آل كابوني مطلقا المدفعية الثقيلة.
مقابلة المعارضين للحكومة الليبية في هذه الأيام ليست بالأمر السهل. فالقيام بذلك يعني تجاوز التحذير الرسمي الذي وُجه لي في فندق في طرابلس، ويعني الخروج إلى الشارع وإلى سيارة متوقفة في مكان قريب. ومن هناك نسلك طرقا متعرجة عبر الشوارع الخلفية للمدينة، حيث يحاول السائق الإفلات من المراقبة.
بعد سبع سنين من إسقاط معمر القذافي في ثورة الربيع العربي، دخلت ليبيا دائرة مكتملة من الدكتاتورية من خلال الثورة والديمقراطية، والفوضى، والعودة إلى نوع جديد من الاستبداد. باستثناء أنّ في هذا الوقت، لا يوجد دكتاتور واحد، بل العشرات، مُمثلين في المجموعات المسلحة ذاتها التي هزمته. كذلك عاد المعارضون، وبعد عدة أيام من المكالمات الهاتفية السريعة التقيت بواحد من أبرز المعرضين السابقين وهو المحامي حميد المهدي.
الرحلة بالسيارة عبر هذه المدينة تعني العثور على طريق عبر ضباب سياسي، أثناء محاولتك تحديد من هم من بين المسلحين الذين يرتدون الزي الرسمي البالي وألبسة متنوعة وشاحنات البيك آب التي تعرضت للتلف، إنهم أفراد العصابات الذين يشكلون قوات الأمن الرسمية التابعة للحكومة المدعومة من الأمم المتحدة. ثمة وحدة من تلك القوات مزوّدة بالزي الرسمي الأزرق الأنيق الخاص بوزارة الداخلية، لكنها تبقى مجموعة مسلحة تمثل العنف والتهديد كما في السابق. وقد تصاعدت حدة التوتر بعد أن عُثر على جثة أحد أمراء الحرب التي ألقيت بواسطة خصومه خارج أحد مستشفيات المدينة في أحدث عمليات القتل الانتقامية.
التقيت بالمهدي في بيته، الذي أعاد بناءه بعد أن أحرقه مناصرو القذافي كعقاب لمعارضته. والآن أعاد تعريف نفسه مرة أخرى كمعارض، ومعارضا للطغيان الجديد الذي يصفه بأنه “تجمع الحرباوات المتلونة”.
بعد عودته من صلاة الجمعة يستقبلني المهدي مرتديًا رداء جلبابا أبيض أنيقًا ويقدم لي كوبًا من الشاي شديد الحلاوة. ويقول: “لقد قتلنا القذافي، لكن العديد من الدكتاتوريين الصغار، وقادة المجموعات المسلحة، ولدوا من رماد جثته”.
في بلد آخر، أو في زمن آخر، سوف يكون لدار المهدي لوحةٌ زرقاء معلقة على الحائط في الخارج، تدلل على الأهمية التاريخية للمكان الذي التقى فيه المعارضون، مخاطرين بكل شيء وهم يحلمون بالحرية. وها نحن نجلس في الغرفة ذاتها حيث كان الناشطون والمعارضون يتحدثون ويخططون أثناء نظام القذافي. ويقول المهدي بابتسامة “هذه الغرفة كانت تسمى قاعة المتظاهرين، وهذا هو المكان الأعز بالنسبة لي في المنزل.”
كان نظام القذافي شديد القسوة، وتعرض مهدي للضرب وألقي به في السجن. لكن حتى في السجن تعزز لديه الأمل في أن ليبيا ستكون حرة في يوم ما، وهو أمل يموت الآن لأن ثمار الحرية أصبحت واضحة.
“لم نطلب تعذيب الدكتاتور وإهانته حتى لا نصبح مثله. أين أوصلتنا هذه الدماء؟ إلى جحيم ومعاناة يومية “. ثم يخفض عينيه:” أعتقد أن الثورة كانت خطأ “.
أ
علنت الأمم المتحدة قبل ثلاث سنوات أن الجحيم الذي يصفه مهدي سينتهي بإنشاء حكومة الوفاق الوطني التي هبطت إلى طرابلس لتخليصها من العصابات. ولكن بعيدا عن طرد الميليشيات فإن الحكومة تدين بالفضل لهم.
أمراء الحرب في طرابلس موجودون على كشوف مرتبات الدولة، من خلال طريقة بسيطة يستخدمونها لمسلحين يهددون المصرفيين بالخطف أو ما هو أسوأ. وأسفرت ضغوط مماثلة عن قيام الحكومة بتسليم مهمة الاستخبارات والمراقبة الخاصة بها إلى ميليشيا إسلامية. وحتى في الوقت الذي تقاتل فيه المجموعات المسلحة بعضها بعضا في العاصمة، فإنها تقاتل أيضا الجيش الوطني بقيادة خليفة حفتر، الموجود بقوة في الشرق.
في هذه الأثناء، يعاني المواطنون نقصا في الوقود والكهرباء والمياه والسيولة النقدية. ومع أن ليبيا غنية باحتياطيات أجنبية تبلغ 50 مليار جنيه استرليني، وإنتاج مزدهر للنفط. لكن لا يسمح سوى لعدد قليل من البنوك – تلك التي تسيطر عليها المجموعات المسلحة – بتوزيع النقود. والمواطنون يصطفون في طوابير طويلة من أجل الحصول عليها.
رحلتي للقاء المهدي بمثابة استنشاق نادر للهواء النقي في مدينة يتم التحكم فيها تماما بالمعلومات. في عهد القذافي كان الصحفيون يحتاجون إلى تصريح فقط للخروج من الفندق. الآن أنا بحاجة إلى اثنين من الحكومة، وآخر من المجموعات المسلحة التي تسيطر على أي منطقة أخطط لزيارتها. لم ينتخب أحدٌ هذه الحكومة، التي عينتها لجنة ترأسها الأمم المتحدة، ولها وجهان للعالم. أحدها للدبلوماسيين الغربيين الذين يقومون بزيارات دورية للمدينة لتصويرهم مبتسمين مع رئيس الوزراء. والوجه الآخر لليبيين أنفسهم، وهو ليس جميلاً.
“لا تلتقط صوراً للطوابير أمام المصارف.” “ولا تقابل الناس هناك” ، يقول، إسماعيل المسؤول الحكومي عن مهمتي. أوامره هي أن يتبعني في كل مكان، ويمسك بمجموعة من التصاريح والأذونات، وهذا له جانب فكاهي ما. يمكنني شراء القهوة في أحد مقاهي القهوة المنتشرة في كل مكان، ولكن لا يمكنني التحدث إلى الناس لأنني لا أملك إذنا بذلك.
ولا يمكنني أن أتحدث إلى الشبان الذين يتسكعون في الخارج والذين يبدون كرجال عصابات، وهم أقرب إلى الصبية منهم للرجال. إنهم يرتدون ملابس باهظة الثمن تحمل علامات تجارية مشهورة ويلعبون بالرشاشات، ويتجمعون حول سيارة مرسيدس سوداء لامعة. هم يعرفون أنهم القوة الحقيقية في هذه المدينة، وكذلك يشعر الجميع هنا. وفي حالة من الإحباط، أسألُ إسماعيل كيف يمكنني كتابة موضوع صحفي، بدون تصريح للتحدث إلى أي شخص. “أنا لا أعرف، ربما لا تكتب شيئا”، يقول لي.
ومن المعارضين الآخرين إبراهيم، مقدم البرامج الإذاعية الذي شكل فرقة صغيرة من الأشخاص المتشابهين في التفكير تسمى لجنة الأزمة. وهم يعقدون اجتماعات جادة لمناقشة الطريق إلى الأمام، والتي تكون نبيلة أو غير مجدية، اعتمادا على وجهة نظرك.
يقول إبراهيم لي إن الرقابة الخبيثة والشريرة المشابهة لأسلوب القذافي، قد عادت من جديد: “يمكننا أن ننتقد الحكومة أو الأمم المتحدة أو حفتر، لكن هناك شيئين من الأفضل عدم الحديث عنهما. المجموعات المسلحة والملتحين الإسلاميين”.
وتم حرق العديد من محطات التلفزيون لأنها فشلت في فهم هذه التعليمات، وأكثر من عشر محطات تبث الآن، من الخارج من أجل السلامة.
كل ذلك يجعل إبراهيم يعتقد أن ليبيا لا تستطيع التعامل مع الحرية. ويضيف: “لم نكن مستعدين للثورة ولم يكن لدينا الوسائل للتعامل مع هذه الحرية. كنا مثل الطفل الذي طلب لعبة لفترة طويلة، ثم حصل عليها في النهاية. لكن اللعبة كانت مفككة ولم نكن نعرف ما يجب فعله بالقطع المختلفة.”
تدار الإدارة الحكومية في طرابلس، في الغالب، من قبل نفس الأشخاص الذين كانوا يديرونها تحت حكم القذافي، والكثير منهم يتفاخرون بشأن عودة الطرق القديمة. “نحن جميعًا من الخضر في هذا المكتب” ، يتباهى موظفٌ إعلامي ، في إشارة إلى علم الدكتاتور الأخضر. “نحن نعرف كيف نتعامل مع الصحفيين. انهم جميعا جواسيس “.
ثم هناك الفساد. في ظل القذافي كان الفساد واسع النطاق، ولكن كان مركزيا. أما الآن فهي الفوضى بعينها. يقول محمد، البالغ من العمر 35 عاماً والذي يقوم بنوبة عمل مسائية في فندقي، إن طرابلس تعاني من الفساد على كل المستويات، لكنه لم يعد يهتم بالإبلاغ عنه. “أولئك الذين ينبغي أن أبلغهم عن الفساد فاسدون مثل الآخرين” ، كما يقول. “وربما أكثر.”
اثناء الثورة، حمل محمد سلاحا وانضم إلى الثوار، لكنه يقول الآن إنه كان مخطئً “إذا استطعت سأمسح تلك الأيام من ذاكرتي. أعرف أن القذافي كان ديكتاتوراً، لكننا لم نكن مستعدين للديمقراطية”. المستفيدُ غير المحتمل من هذا الاستسلام هو خليفة حفتر، الذي بنيت قواته حول القوات المسلحة النظامية في ليبيا. وكان حليفا سابقا للقذافي ثم تحوّل فيما بعد ضد الدكتاتور، ويتهم حكومة الوفاق بأنها تحت سيطرة الإسلاميين وتعهد بالمسير إلى طرابلس وسحق المليشيات. هناك كثيرون يؤيدونه رغم مخاوفهم من أنه يريد الحكم العسكري.
وقد وجد استطلاع رأي نادر، تم بتكليف من وكالة حكومية أميركية، أن جيش حفتر هو أكثر المؤسسات الليبية شعبية، في حين أن نسبة تأييده البالغة 68٪ تفوق نسبة الحكومة التي تبلغ 15٪.
ويشرح محمد هذه المشاعر بالقول. “الآن نحن جميعا مستسلمون ، وفي هذا الاستسلام، يفكر الكثيرون منا، وبحرقة في قلوبنا، أنه من الأفضل أن يكون لدينا حفتر. من الأفضل أن يعود لدينا رجل قوي “.