خليج السدرة “هبة الجغرافيا ولعنة التاريخ”
خليل الحاسي
بعد ثورة 17 فبراير كانت الموانئ النفطية الليبية الكبرى في “خليج السدرة” على موعد مع عبث قطاع الطرق وقراصنة النفط. وكان خروج خليج السدرة عن سلطة نظام القذافي إبّان ثورة فبراير، عنصرا حاسما في معادلة القضاء على توقّعات النظام السابق بعودة الشرق الليبي لحظيرته السياسية والعسكرية. وعلى جانب القراءات المستقبلية المتشائمة وفَّرت سيطرة الثوار على تلك المنطقة فرصا مستقبلية لإمكانية خلق أسس اقتصادية واستراتيجية لأية حركة انفصالية تطمح للعودة نحو التقسيم التاريخي التقليدي للأقاليم الثلاثة في ليبيا..
لقد أصبح خليج السدرة بعد فبراير موئلا للعصابات ولصوص النفط في هذه المنطقة التي تمثل عمقا استراتيجيا يفتح شهية المتمردين، ولا يخضع لقوانين التكتيكات العسكرية، بقدر ما يستجيب لسحر الغرائز القتالية. أكثر من ذلك، تبدو هذه البقعة الجغرافية العصية على السيطرة إلا تحت سلطة نظام مركزي صارم، هي معيار الرأي العام في قياس وزن الجماعات المسلحة على الأرض، والتي يتحدد بناء عليها شكل الاصطفاف أو حجم التأييد للقوى المختلفة المصطرعة على التراب الليبي.
تُشكِّل الخلجان المجال الأخصب لممارسة الدول لسيادتها، وهي في المقابل تعتبر مصدر استقرار اقتصادي وتهديد أمني مستمر لسيادة البلدان في آن معا. الخلجان لعنة الأمن القومي التي تجر أطماع الآخرين، وهبة الصدفة الجغرافية التي تعدُ مواطني الدول الساحلية بالتنمية والازدهار.
ولطالما كان خليج السدرة الذي يشكل مصالح عسكرية دفاعية ومصالح اقتصادية ليبية كالصناعات النفطية وصيد الأسماك، مقصدا لكل التهديدات المناوئة لأي نظام قائم، ابتداءً من عملية “نار المروج” الأميركية والاشتباكات المسلحة بين الولايات المتحدة الأميركية ونظام القذافي بداية الثمانينيّات بسبب الجدل القائم على تعريف المياه الإقليمية في خليج السدرة، وبسبب تباين الآراء القانونية الدولية في تعريف خليج السدرة، حول كون الأخير خليجا وطنيا أو دوليا أو كان خليجا تاريخيا وطنيا؛ فوفقا لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار 1982 ينبغي ألا يتجاوز اتساع مدخل الخليج أكثر من 24 ميلا بحريا وإلا أصبح خليجا إقليميا تنتزع منه صفة الخليج الوطني. وهذا الذي ينطبق على الوصف الجغرافي لخليج السدرة، وبالتالي يجب أن تضمن ليبيا للدول الأخرى حرية المرور والملاحة الدولية. غير أن بعض الترجيحات القانونية تعتبر خليج السدرة خليجا مرتبطا بتاريخ سياسي قديم للدولة الليبية. ذلك أن السيادة الليبية على خليج السدرة لم تكن في يوم من الأيام محل جدل أو نقاش إقليمي ودولي. إضافة للعوامل الجغرافية التي تعزز سيادة ليبيا على الخليج، متمثلة في إطلالة إقليم ليبي على كامل الخليج دون أن تشاطره أو تنازعه في ذلك دول أخرى، زد على ذلك ضحالة الخليج التي تمنع السفن من المرور.
انتهت التوترات الأمنية والاشتباكات المسلحة بين الولايات المتحدة الأميركية وقوات القذافي ما بين عامي 1981 و 1986 بهزيمة الأخير، وكعادة الطغاة الذين يستعيضون عن هزائمهم التاريخية بتغيير أسماء الأماكن التي صارت مسرحا يؤرخ لانكسارهم واستسلامهم غير المشروط، أطلق القذافي على خليج السدرة اسم خليج التحدي.
عود على بدء:
كان علينا أن ننتظر وصول الجضران للسيطرة على الحقول النفطية لندرك حجم لعنة الجغرافيا الليبية في منطقة خليج السدرة الذي يسمى الآن بالهلال النفطي؛ ولتستقر مع هذا الإدراك مفاهيم أشد خطورة من سيطرة قاطع طريق على المنشآت النفطية للدولة، وسلبه لقوت الليبيين! هل قلت قوت الليبيين قبل لحظة؟ لعلي خضعت أنا الآخر لابتزاز الوهم الجماعي الذي انتشر في أدبيات الصحافة الليبية هذه الأيام مثل سرعة انتشار عصابات الجضران في خليج السدرة. قوت الليبيين مضاف ومضاف إليه يخضع لقواعد لغة الغنيمة وثقافة مجتمعات السلطة الأبوية وأدبيات دولة الريع التي تنتج المجتمعات الكسولة المستهلكة، وبقدر ما يحمل هذا الوصف من قيمة الاتكال على موارد البلد والصدفة الجغرافية، بقدر ما يشكل عائقا أمام عملية التحول الديمقراطي بما هي شاملة للمتغيرات الثقافية والنمط الاقتصادي. إنها عداوة المواطن مع فكرة الدولة، وعداوة رجال الدولة مع مفاهيم الكيان الاعتباري السياسي المسمى “دولة”. ولعل هذا الذهب الأسود الرابض في الصحراء الليبية لا يرى إلا في صورة رواتب لأكثر من 1.8 مليون موظف عمومي لا تتجاوز زمنية إنتاجهم أكثر من ربع ساعة يوميا بحسب ما جاء في تقرير ديوان المحاسبة الليبي لعام 2017. إن سيطرة الجضران وعصابات النفط على أهم الموانئ النفطية أفسح المجال أمام تكريس ثقافة السطو المسلح على الدولة وابتزاز الحكومات، ولَم يكن التلويح بعصا الانفصال إلا إحدى الحيل الجضرانية التي تضمن الإبقاء على الأوضاع الراهنة.
لم يمض الكثير من الوقت على مفاوضات إبراهيم الجضران مع حكومة الوفاق الوطني حتى استطاع الجيش طرد عصابات الجضران في عملية عُرفت بالبرق الخاطف. حينذاك استلمت المؤسسة الوطنية للنفط الموانئ، وبدأت الصادرات تشهد انتعاشة تستريح أنفاسها داخل رئة الاقتصاد الليبي “المصرف المركزي” في العاصمة طرابلس. استطاع الجضران ترتيب صفوفه في إحدى المناطق الليبية مستعينا ببعض الموتورين وعصابات مرتزقة يحملون الجنسية التشادية، فسيطر على الموانئ النفطية مثل “البرق الخاطف” متنازلا عن حاضنته الشعبية البرقاوية التي خذلت طموحه الانفصالي، ومستندا هذه المرة على شرعية المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق التي أصبحت قبلة للميلشيات اللاهثة وراء الشرعية الدولية التي تتمتع بها الوفاق؛ أكبر حكومة تشكيلات مسلحة في التاريخ السياسي العسكري الليبي.
استطاع الجيش الوطني أن يطرد عصابات الجضران للمرة الثانية بعد الهجوم التاسع الذي شهدته المنشآت النفطية بين حروب مختلفة لخصوم توحدهم أطماع اقتصادية وجهوية تمثلت في ميليشيات الشروق التابعة لفجر ليبيا وبين هجومين لتنظيم الدولة الإسلامية.
يبدو التعامل مع قطاع الطرق واللصوص داخل أدبيات جماعات الإسلام السياسي أسهل وأقل تعقيدا من التعاطي مع الخصم السياسي الذي مكّن مؤسسات الدولة متمثلة في المؤسسة الوطنية للنفط من إدارة المنشآت النفطية. وهذا يفسر استقبال جماعات الإسلام السياسي المحلية لخبر هجوم الجضران على خليج السدرة بصمت يشبه الموت وبأمل ممزوج بالتفاؤل الحذر.
ليبيا التي تنزف الدم والنفط من خاصرتها في خليج السدرة، تدخل اليوم مرحلة غير مسبوقة في حرب الموارد والصراع على الثروات. إن سهولة افتكاك الموانئ النفطية من قبضة الجيش رغم استعادتها لاحقا، ستفتح الباب واسعا أمام حلم الجماعات المسلحة المناوئة للجيش بالحصول على ورقة توضع على طاولة حسابات الحرب الأهلية.