خلف جواز السفر.. من “غريان” إلى “الشّقيقة”
أحلام المهدي
إنه حفل تعارفٍ صاخب، ذاك الذي تعرّف فيه الليبي على القرى والمدن الليبية البعيدة، فلم تكُن “براءة” ذات الثلاثة عشر ربيعا تعرف من بلادها ليبيا إلا المدينة التي وُلِدت فيها “غريان”، إضافةً إلى العاصمة “طرابلس” و”مصراتة”، فقد قضت عطلات عدّة في المدينتين الساحليتين، لكنّها ومنذ “2011” حتى اليوم، عرفت الكثير عن بلادها رغم صغر سنّها، فسمعت في النشرات وعلى ألسنة الناس عدّة أسماء لمدن ومناطق لم تكن لتعرفها يوما لولا هذه الطريقة الغريبة في التّعارف بين الفتاة ووطنها.
وكما عشقت شواطئ “مصراتة” آلمها ما حدث في “تاورغاء”، وكما استمتعت بعناق عاصمة بلادها في كل مرة زارتها فيها غنّت بشغفٍ لبنغازي في الحفلات المدرسية، صارت تسمع عن “ميناء السدرة” وتأثير إغلاقه على اقتصاد البلاد، وطرقت أذنيها كثيرا أزمة الكهرباء في “أوباري” وفي “الجوش”، وطبعا سيكون تناهى إلى سمعها الحديث عن مكافحة الهجرة غير الشرعية والتهريب في “نالوت” وفي “زوارة”.
أما اليوم فقد عرفت “براءة” منطقة ليبية أخرى، بطريقة قد تجعلها بصمةً لن تزول قريبا من الذاكرة الغضّة للفتاة، ففي زيارةٍ قصيرةٍ للوطن ولمدينتها غريان، كان على “براءة” وعائلتها الحصول على جوازات سفرٍ جديدة، لتفادي المصير المُتأرجح للجوازات الخضراء، لكن خللا في إحدى الكوابل أوقف منظومة الجوازات في المدينة عن العمل، لتلجأ العائلة بعد الحجز الإلكتروني إلى أن تقصد إحدى المناطق القريبة للتصوير هناك، وكانت الشقيقة “المشاشية” إحدى الخيارات المطروحة.
لم تكن “براءة” قد سمعت يوما عن “الشقيقة”، وربما حتى لو صادفها الاسم لقرأته بشكلٍ وتشكيلٍ مختلفين لجهلها به، ولأن مكتب جوازات الشقيقة لا يعمل إلا يومين في الأسبوع، فقد انطلقت الأسرة في اليوم الأول منذ السابعة صباحا، لتختبر “براءة” السفر على طريق إسفلتي حديث تتداخل على جانبيه كثبان رملية صغيرة، تحاول أن تمد أصابعها الناعمة لتعبث بعرض الطريق، فتتقلّص في بعض الجهات حتى تتلاشى تماما بفعل الريح.
وعلى جانبي هذا الطريق تتناثر البيوت التي يظهر الثراء على واجهات بعضها، فيما تمتد المراعي الفسيحة قليلة العشب كثيرة الحصى والرمال، أما “براءة” فقد أظهرت سعادتها لأن ضابط الأمن في بوابة “القضامة” قبل الدخول إلى “الشقيقة” لم يوجّه لوالدها إلا سؤالا واحدا هو: كلكم ليبيين؟
ليبتسم بعدها بودّ قائلا “تفضّلوا” بعد سماعه الرّد.
في آخر الدرب الإسفلتي الذي يتوسّط “الشقيقة” وفي منطقة شبه خالية، قرأت “براءة” على واجهة أحد المباني المتواضعة “قسم جوازات الشقيقة”، بناءٌ صغيرٌ ببابين خشبيين موصَدَين وثلاث نوافذ في الواجهة، عددٌ من الرجال غادروا سياراتهم المحيطة بالمكان، يحمل كلٌّ منهم رزمةً من الأوراق، ليبدو الجميع وكأنهم متفقين على وضع هذه الأوراق البيضاء العريضة وسط “كتيّب العائلة” الأخضر لتؤطره من ثلاث جهات.
لا شيء في المكان يدل على سير العمل، أحدهم أخبر والد “براءة” أن الكهرباء مقطوعة، ولا أحد يعرف متى ستعود، تطول ساعات الانتظار، ويبقى البابان على حالهما، منذ الثامنة صباحا وحتى الثانية بعد الظهر، ستّ ساعات بالضبط مرّت ببطء، انتهى الانتظار بانتهاء الدوام، وقفل كل من بالمكان عائدين إلى بيوتهم، بمن فيهم موظّفو الجوازات و”براءة”، وفي يوم العمل التالي يتكرّر مع الفتاة السيناريو نفسه بكل تفاصيله، إلا أن الضابط في “القضامة” لم يستوقفهم هذه المرة، واكتفى بإشارةٍ من يده أرفقها بابتسامة طفيفة تقول “تفضلوا يا ليبيين”!