خلايا الفاشية النائمة
سالم العوكلي
للمساعدة في تأسيس جريدة ميادين لصاحبها أحمد الفيتوري،انتقلت في شهر مارس 2011 إلى مدينة بنغازي، عاصمة انتفاضة فبراير آنذاك، قبل أن تتنازع قيادة هذا الحراك عديد المدن والقبائل والتنظيمات، لتحتكر الشرعية الثورية، باعتبار أن لافتات طنانة، مثل، الثوار أوالثوريين أو حماية الثورة، تشكل أقصر الطرق إلى الاستبداد وتصفية الخصوم والانفراد بالسلطة.
كانت بنغازي في تلك الفترة تعج بالحراك، وكلٌ يريد أن يكون له دور ملموس في هذا الحدث التاريخي، من تأسيس المطابخ التي تجهز الطعام للمقاتلين في الجبهات، إلى تأسيس مطابخ الأحزاب الجديدة المطبوخة بسرعة على نار حامية، وعن كثب شاهدت تغلغل جماعة الأخوان في مفاصل هذا الحراك؛ المدنية والإعلامية والسياسية والعسكرية، مخدومين بإمكانيات مادية كبيرة، وبدعم إقليمي منقطع النظير، ما ساعدهم على جذب الكثير من الشباب النشط عبر الإغراءات المادية، وفي نقاش مع بعض الأصدقاء المثقفين أعلنت خوفي من هذا التغلغل الذي يلعب على فراغ الساحة الليبية من أية تكتلات أخرى منظمة، وكان رأي بعضهم المتحمس لفكرة الحياة الحزبية المشرعنة لأول مرة في ليبيا، أن من حقهم أن ينشئوا حزبا وينخرطوا في التنافس السياسي عبر آليات ديمقراطية ، وكان ردي : أنا لست سياسيا، لكني أحسب نفسي على الثقافة والمثقفين، وهو ما يجعلني ضد فكرة تسييس الدين من أساسها، لأن تسييس الدين يعني الشروع في بناء فاشية جديدة، وهذه المرة أكثر فتكا لأنها تستمد شرعيتها من السماء مباشرة، فكل الأحزاب على مدى التاريخ، ذات المنشأ التعصبي، قوميا أو دينياً، تحولت إلى فاشيات، وأي حزب يقدم لك برنامجا سياسيا مستقى من الدين، أو الشريعة، سيعتبر تلقائيا برنامجه هذا، حين يصل إلى السلطة، مقدسا، وأية معارضة لهذا البرنامج السياسي هي نوع من الكفر.
وفي العدد الثامن بتاريخ 5 يوليو 2011 من جريدة ميادين نشرنا مقالة ( الفاشية الأصلية) لإمبرتو إيكو، والتي يطرح فيها 14 سمة مميزة لمفهوم الفاشية، محذراً من إمكانية عودة الفاشية في أكثر وجوهها براءة، وأرفقت المقالة بهامش يقول: “المفكر إمبرتو إيكو عاش مرحلة الفاشية فتياً وشهد أفولها في إيطاليا، بقدر ما يؤكد بهذا التوصيف أن الأربعة عقود التي عاشتها ليبيا كانت تمثل جوهر الفاشية الأصلية، بقدر ما يحذرنا من عودة الفاشية من جديد عبر أقنعة أخرى، سواء كانت وطنية أو قومية أو شعبوية أو دينية، ولا مجال لتلافي ذلك سوى بالعمل على تجذير مبادئ الديمقراطية بشكل يومي ومثابر حتى لا تتاح الفرصة لأي مشروع فاشي جديد يتاجر بوجدان الناس وبعواطفهم.”.
وهو اتجاه برز بقوة مع الثورات العربية، ومحاولة سرقتها عبر تأجيج حالة الوجدان الشعبي المتدين، أو استثمارها لخلق قاعدة عريضة للتوجهات الحزبية، أو البرامج السياسية، من أجل الوصول بسرعة إلى سدة الحكم. خصوصا مع الإحساس بعدم وجود أرضيات شعبية لهذه الأحزاب التي تحولت مع الزمن إلى نسخة من الأنظمة الساقطة، حين أصيبت بعدواها إثر التعايش السلمي معها كديكور ديمقراطي، أو مواجهتها من الخارج بنفس آلياتها. كانت فعلا مصابة بعدوى هذه الأنظمة في هياكل تنظيمها، وفي نزوعها الإقصائي، في بناها الثقافية والإدارية، وفي سلطة الفرد الواحد عليها مدى الحياة، مرشدا كان أو رئيس حزب.
ومع إخفاق جل المشاريع السياسية الأخرى، شكلت نزعة تسييس الدين في العقود الأخيرة أحد مظاهر اللاوعي السياسي، بشكل يشبه ما صاحب الحروب الصليبية من دعاية، وما أعقبها من تنظيرات للنازية والفاشية، وليس من قبيل المصادفة أن تتأسس كل هذه التنظيمات الفاشية في العقد نفسه من القرن الماضي، وعن طريق نفس المركز الأوروبي.
تظهر أزمة مثل هذه الخطابات جليا في أدبيات الأخوان التي تنطلق من مرجعية دينية وتدعو في الوقت نفسه لقيام دولة مدنية دستورية، مجسدة نموذجا واضحا للفكر الهجين الذي يحاول أن يمزج بين حقلين معرفيين متنافرين في جوهرهما. وهل يمكن لتنظيم مؤسس وفق التراتبية، وعلاقة الأمر والطاعة، أن يكون ديمقراطيا؟ وهي التراتبية نفسها، وقاعدة الأمر والطاعة نفسها التي جعلت طبيعة الأنظمة العسكرية مناقضة لمفهوم الديمقراطية. وبالتالي كان من الطبيعي جدا أن تلجأ هذه الجماعة إلى فكرة الانقلاب المسلح كأي مؤسسة عسكرية بمجرد أن خسرت الانتخابات، لأن عدم انتخابها يعني في صميم عقيدتها خروجا عن الطاعة.
ومن هذا المنطلق فإن اللاوعي السياسي الذي حكمنا طيلة عقود النظام، مستعينا بأطروحة إمكان التحكم في الجموع وقيادتها كقطيع عبر فهم سيكولوجيتها الجماعية، كما ورد في كتاب جوستاف لوبون (سيكولوجية الجماهير) الذي كان إنجيل موسوليني، هو ما ترصده انتهازيو هذه الثورات، وعيونهم على الصندوق الذي سيوصلهم إلى السلطة، كما أوصل أشرس الطغاة في القرن الماضي.
اللاوعي السياسي حالة عامة من الوجد تصيب من يعتقدون في قرارة أنفسهم أنهم يمارسون عملاً سياسياً، بينما تصريحاتهم تناقض نفسها، وأحاديثهم غير المفهومة تشبه الهترسة أثناء النوم أو كلام المخدر، وفي أفضل الأحوال يستخدمون لغة غير ديمقراطية في الحديث عن الديمقراطية، إضافة إلى ما يضمرونه من عداء الأصيل للثقافة والمثقف وحساسية شرسة تجاه النقد، وتخوين دائم للرأي المختلف.
في النقطة الثالثة من تحديده لخصائص الفاشية الأصلية يقول إيكو: ” إن اللاعقلانية مرتبطة بعبادة الفعل من أجل الفعل. إن الفعل جميل في ذاته. يجب إذن أن تقوم به قبل التفكير وبدونه. إن التفكير نوع من التهجين. وهكذا، فإن الثقافة مشكوك فيها دائما، لأننا نربطها دائما بموقف نقدي. فمن تصريح غوبلز (عندما أسمع كلمة ثقافة أخرج مسدسي) إلى التعابير المألوفة: مثقف وسخ، رأس بيضة سنوب، متطرفو الجامعات، أوكار الشيوعيين، كان الحذر من المثقفين دائما دليلاً على فاشية أصلية.” أما في النقطة الرابعة فيقول: “لا يمكن لأي شكل من أشكال التلفيق أن يقبل النقد. إن العقل النقدي يقيم تمايزات، والتمايز علامة الحداثة. وينظر العلماء، في الثقافة الحديثة، إلى الاختلاف باعتباره أداة من أدوات المعرفة. أما بالنسبة للفاشية الأصلية، فإن الاختلاف خيانة.”. وفي الخصيصة الخامسة يقول: “إن الاختلاف هو بالإضافة إلى ذلك علامة على التنوع. أما الفاشية الأصلية فتؤمن بالإجماع وتبحث عنه عبر استغلال واستثمار الخوف من الاختلاف. فأول بيان أعلنته حركة فاشية كان ضد الأغراب. فالفاشية الأصلية هي إذن عنصرية.”.
ترتد هذه الخصائص إلى حالة شاملة من اللاوعي، وتصبح جزءا من ثقافة وسلوك من هم على رأس السلطة أو من يسعون إليها، بل وتتسرب إلى ضحايا الفاشية أنفسهم من الجموع المخدَّرة التي عادة ما تستجيب لحالة الوجد وتنحاز أثناء اجتماعها ضد مصالحها، بينما في قرارة نفسها ترى أن الوطن في خطر عندما تخلد إلى ذواتها الفردية. لذلك لا نستغرب تلك التظاهرات التي تخرج رافعة لافتات (لا للحوار) لأنها في ذروة اندماجها في حالة اللاوعي الجماعي رغم أن كل فرد سيدرك أنه لا بديل للحوار لحل أزمته حين يرجع إلى البيت ويجد ثلاجته فارغة.
كما لا نستغرب هذا الهجاء التقليدي للثقافة والمثقف ولكل ما يمت لمفهوم النخبة بصلة، منذ أن وصف القذافي المثقفين بالمرضى، وأمر بتطهير البلاد منهم، إلى ما نسمعه الآن من نبرة تهكم على المثقف وازدراء تلقائي لمفهوم النخبة، ليصبح السؤال الدارج: أين هو دور المثقف الليبي؟ بينما الضجيج الإعلامي الذي يهيمن على كل مصادر المعرفة لا يترك مجالاً لسماع صوت هادئ أو محايد علميا، والنتيجة دائما كما يقول المفكر الليبي الذي لم يعش حالة المنفى الجغرافي، يوسف القويري: “إن المجتمع المتخلف المغلق يقذف طلائعه نحو المنفى النفسي”.
في ظل هذه القوى السحرية التي كثيرا ما اشتغلت عليها السلطة تحت مسميات عائمة مثل الجماهير أو الشعب أو الغوغاء تنمو بسلاسة أعتى الفاشيات، خصوصا حين يصبح الخوف، وفي مقابله توفير الأمن ذريعة السلطة لكي تنال شرعيتها، وهي المقايضة نفسها التي يحشد بها الآن اليمين الفاشي في الغرب الحداثي الناخبين حوله مستغلاً ظاهرة الإرهاب والخوف منه كي يبني فاشيته العنصرية.
لذلك ستكون هذه الثورات عقيمة، إن لم تُسقط ليس الأنظمة فحسب، ولكن كل بنى الفاشية التي ترعرعت في ظل هذه الأنظمة، أو كما يختم، إمبرتو إيكو، مقالته المهمة: ” إن الفاشية دائما موجودة بيننا، أحيانا على شكل لباس مدني. إن الفاشية الأصلية قابلة لأن تعود من خلال أشكال بالغة البراءة. واجبنا أن نفضحها، وأن ننبه الناس إلى كل أشكالها ـ دائما وفي أي جزء من العالم”.