خريف السلطان
فرج الترهوني
في هذه الأيام التي يبرز فيها للعالم بشكل واضح الجانب الشرس من شخصية الدكتاتور الذي يسعى لتغليب رؤيته لمصالحه على كل ما عداها، بغض النظر عن رؤية العالم الآخر له، فيضع هذا العالم، فعليا، على “كف عفريت” ويغيّر الكثير من الموازين والتفاهمات المتعارف عليها، كثيرا ما نتساءل عن مقومات هذه الشخصية ودوافعها. وتعدّ رواية “خريف البطريق” من أشهر ما كتب الروائي الكولومبي الحائز على جائزة نوبل في الآداب غابرييل غارثيا ماركيث، خير مثال على مثل هذه الحالة، حيث تناول فيها بشرح مسهب حياة وأفكار الديكتاتور، بالتوازي مع البشاعات والسلوكيات القاسية التي تبقيه في السلطة. وتركز الرواية على المكانة الإلهية التي يتمتع بها البطل الدكتاتور، ويبدو أنه لا بد من الاعتراف أن الإقامة الطويلة في سدّة الرئاسة تضاعف حتما من شعور مثل هؤلاء المستبدين بقوتهم وفرادتهم على العالمين، فتكون آراء الدكتاتور وكلمته هي العليا، بغض النظر عما يراه حتى أقرب الناس له.
ومن قبيل الصدفة فقط أن أقع منذ أيام على كتاب مثير في هذا المجال، يتحدث عن حالة الدكتاتور، للكاتب التركي سونر كاجابتاي من خلال كتابه المثير (السلطان في الخريف) A Sultan in Autumn الذي يتناول فيه بالتفصيل شخصية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بالمعنى نفسه الذي استحضره ماركيث في روايته الشهيرة عن السلطة المطلقة التي يتمتع بها الطاغية الكاريبي.
لقد حكم أردوغان تركيا لما يقرب من عقدين حتى الآن. ويقدّم الكاتب رؤاه حول المرحلة التالية من حكم أردوغان. حيث يبدو أن قاعدة دعمه قد بدأت تتآكل في الداخل، إلى جانب المعارضة المتزايدة لحكمه، وتأثير جائحة كوفيد -19 والاقتصاد التركي الضعيف الذي يتعرض للهزات كل يوم، كل هذه القضايا تهدد قبضته على السلطة.
وكاجابتاي المطّلع على ما يدور في بلده الأم، يصور أردوغان على أنه مخترع السياسة الشعبوية القومية في القرن الحادي والعشرين. وإن يبدو الآن أنه وجد له منافسا قويا في شخص فلاديمير بوتين، مع فروقات بسيطة. فالرئيس التركي يعرف كيفية استقطاب الناس لتعزيز قاعدته الانتخابية، وهو ماهرٌ في استخدام التكتيكات القمعية، عندما لا يكون الاستقطاب الشعبي وحده كافيا للفوز في الانتخابات، كما حدث عديد المرات، وتتعلق هذه التكتيكات بالتنكيل بخصومه من السياسيين والإعلاميين، ولن يعدم إيجاد أعذار تدور في فلك القانون، بعد أن قدمت له المحاولة الانقلابية الفاشلة، على طبق من ذهب، كل الأعذار للمضي قدما في مسيرته الاستبدادية حتى النهاية. ويؤكد كاجابتاي في كتابه أن أردوغان سيتشبث بالسلطة، الأمر الذي يحمل تكاليف باهظة لمواطني تركيا ومؤسساتها وحتى حلفائها.
يعيش كاجابتاي في الولايات المتحدة منذ عام 1996 وعلى الأغلب ما كان باستطاعته نشر كتابه في تركيا لأنه يتعرض بالتفصيل وبالوثائق لفترة حكم أردوغان التي يصنفها بالديكتاتورية. وقد سبق له، وهو المختص بالشؤون التركية، أن أصدر كتابا حول الموضوع نفسه بعنوان “السلطان الجديد” ويطرح أسئلة من قبيل هل أردوغان زعيم استبدادي، ليجيب مباشرة بالحجة الدامغة بنعم. وهل ستذبل ديمقراطية تركيا وسكانها في ظل حكمه؟ لكنه يجيب لا، بدون تردد.
يقول كاجابتاي إن ديمقراطية تركيا تتسم بالمرونة، ومجتمعها المدني قوي، كما أن ناخبيها الشباب غير راضين بشكل متزايد عن أسلوب الرئيس في الحكم. ويرى أن معضلة أردوغان تتلخص في – التحدي الذي يواجهه في محاولة الحفاظ على السيطرة على القوى العديدة التي تشكل تركيا اليوم. فمنذ أن أصبحت تركيا ديمقراطية متعددة الأحزاب في عام 1950 لم ينجح أي من قادتها – من عدنان مندريس في الخمسينيات إلى تورغوت أوزال في الثمانينيات – في الحفاظ على حكم الفرد الواحد في البلاد ، بغض النظر عن شعبيته. وبالتالي على الرغم من فترة ولايته الطويلة، فلا يعتقد كاجابتاي أن أردوغان سوف يخالف هذا الاتجاه. إن الدولة التي يبلغ عدد سكانها 84 مليون نسمة وتبلغ قيمة اقتصادها أكثر من تريليون دولار في عام 2020 جنبًا إلى جنب مع مجتمع مدني نشط للغاية وطبقة وسطى كبيرة وتقاليد ذات تقاليد ديمقراطية قوية، هي دولة معقدة للغاية ومتنوعة ديموغرافيًا أيضًا. وكبيرة من الناحية الاقتصادية، ومعقدة جدًا من الناحية السياسية لتصبح ببساطة مجرد مقاطعة لأي قائد مستبد واحد. ويرى كاجابتاي أن أردوغان شخصية تتحدى التوصيفات النمطية. إنه يسيطر على تركيا، لكنه لم يعد يقودها فعليا. فهو وُلد وترعرع في حي فقير في اسطنبول لكنه يعيش اليوم في قصر به أكثر من ألف غرفة في أنقرة، باعتباره سلطان البلاد.
السلطان أردوغان من بين مخترعي السياسات الشعبوية القومية على مستوى العالم في القرن الحادي والعشرين. ولا يختلف عن غيره من القادة الشعبويين، بمن فيهم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، ويجب التسليم بإن لأردوغان لديه قاعدة تؤيده، ولكن أيضًا – وبالمقابل هناك معارضة تكرهه بكل بساطة، وتتوق إلى محاكمته في حال سقوطه من السلطة. وهنا يكمن التحدي الرئيس الذي يواجهه: من الآن فصاعدًا، سيحاول زيادة فرصه في البقاء السياسي لأطول فترة ممكنة.
يتمثل هدف أردوغان المزدوج في تعزيز الاقتصاد التركي الذي جاء إلى السلطة على وقع أنغامه. ولهذه الغاية، سيحاول اختيار طريقه للنجاح في صناديق الاقتراع، ومرة أخرى يغطي جميع قواعده المعروفة: شيطنة المعارضة القومية الكردية لحشد قاعدته القومية، مع تشريع المزيد من الحريات الواقعية لجذب الأسواق؛ وقمع الفئات الضعيفة في المجتمع لحشد الناخبين المحافظين في الداخل.
يقول كاجابتاي إن دافع أردوغان من خلال سياساته المرتبكة هو البقاء مرة أخرى، بعد أن فقد الكثير في الانتخابات المحلية التركية لعام 2019 ويتنبأ بأن الناخبين يمكن أن يلحقوا هزيمة مذلة بأردوغان في انتخابات 2023، فهل ما يجرى إيذان بحلول خريف السلطان كما وصفه الروائي ماركيث في كتابه الشهير؟ هذا سؤال يطرحه هذا الكتاب المثير، وستجيب عليه الشهور القادمة.