خراريف ليبية وأسرار التأليف للطفل
سالم العوكلي
أسئلة كثيرة تتعلق بأدب الأطفال ومسألة القراءة وغيرها مما يرتبط بمجال ثقافة الطفل والترفيه عموماً، من كتابة ونشر وصحافة وتسويق وكل ما يمت بصلة لعلاقة الطفل بالكتاب .
لكن السؤال الجوهري: هل مازال الطفل يقرأ ما يكتب من أجله ؟
سؤال ستكون الإجابة عنه صعبة، لأننا في الواقع لا نملك إحصاءات من هذا النوع، في الثقافة عموماً، ما بالك بثقافة الطفل . إحصاءات تثبت لنا الأزمة إن كانت ثمة أزمة ومن ثم تدلنا بسؤال أكثر تفصيلا : أين تكمن المشكلة، وأية حلقة تعاني خللاً، من حلقات هذه العلاقة التي تبدأ من كتابة النص وتنتهي باستهلاكه .
غير أن أسئلة أخرى لا يمكن تجاوزها تتعلق بوسائط أخرى بدأت تحتل مساحة الكتاب ، ليس عند الأطفال فقط ، ولكن عند الكبار والمثقفين أنفسهم .
ولأننا معنيون بالأطفال فيمكن تلخيص هذه الوسائط في الفضائيات التي تبث فيها برامج الأطفال على مدى أربع وعشرين ساعة ، إضافة إلى عالم الألعاب الإلكترونية المثير الذي يقضي معه الأطفال معظم وقت صحوهم ، ووسط هذا الضخ الأسطوري والذي يحتوي على قدر كبير من التشويق والإثارة والمتعة نتساءل : هل من الممكن أن يمسك الطفل كتاب قصص ويستمتع بقراءته وحلبة المنافسة مع تلك الوسائط لا تتمتع بأي عدالة أو توازن ؟.
كنت أحضر الكثير من القصص لمكتبة أطفالي ، وكان العزوف عن قراءتها هو القاعدة والاستثناء هو تصفحها على مضض أمام بعض الضغوط ، قصص مختلفة عربية وليبية ومترجمة لم يستطيعوا خلق علاقة معها رغم كل التحفيز والإغراء أحياناً، غير أن شيئا استثنائيا حصل ، لابد من الوقوف عنده فيما يخص تجربة عائلتي الخاصة ، وهو بمجرد وصول كتاب “خراريف ليبية” ـ الذي جمع حكاياته وحققها القاص أحمد يوسف عقيلة ــ إلى البيت بدأت حالة من الفوضى والشجار حول قراءة هذا الكتاب ، بل وقراءته أكثر من مرة ، وفضلاً عن ذلك حفظ أجزاء منه، والأمر برمته كان موضع سؤال أصيل بالنسبة لي على الأقل ، وبالتالي لا بد من اقتراحات إجابات أسعى من ورائها لنبش إشكالية الكتابة للطفل، وسألت أطفالي عن سر ولعهم بالخراريف ، فتنوعت الإجابات بين : حبهم لأسلوب المتاهة والتشعب في الحكاية ـ الدوران المستمر حول الحدث ـ اللغة الحميمة :اللهجة ـ الخيال الفسيح المنطلق ـ الإيقاع الموسيقي الذي يشبه الغناء في نثر الحكاية ـ إضافة إلى وجود بعض السجع الفكاهي داخل الحكاية ـ وألفة الكائنات المدرجة في نسيج القصص ومعرفتهم المسبقة بها .
وفي الحقيقة كانت هذه الإجابات التي استشفيتها من آرائهم، وصغتها بالشكل السابق، تشكل مداخل نقدية في تقنية كتابة القصة التي يستجيب لها ذهن ووجدان الطفل، وتأخذه إلى عالم من المتعة المدسوس في داخلها بعض الرسائل التربوية، والملفت في الخراريف، رغم ما تبثه من ألفة مع وقائع القصة واكسسوارها، إلا أن المكان فيها مطلق والزمان أيضاً ، فهي قصص تأخذ أثاثها من المحيط وتخترق به الزمان والمكان لتكون صالحة للسرد في أي وقت، وتوزع بين أمكنة مألوفة وأمكنة على الطفل أن يتخيلها . شخصيات مألوفة وشخصيات يتعهد بتشكيل ملامحها الخيال.
وهي جزء من مكونات الحكاية الشعبية من المفترض أن تؤصل لكتابة الطفل الراهن الذي بقدر ما يختلف محيطه وإيقاع حياته اليومية بقدر ما يحتفظ بوجدان مخلص لجينات الدهشة الأولى ، مؤكدين على أن هذه الخراريف كانت تسمع وفق أداء له خصائصه وبالتالي ستكون تقنيات الكتابة لطفل يقرأ بنفسه أكثر صعوبة ، وتتطلب دقة في صياغة الشكل الذي يجذب الطفل إلى النهاية، مع مضامين تبتعد عن الخطابية التي ينبذها الأطفال، وتقترب من التلقائية التي تنمو على هامشها المرسلات المعرفية دون أن تثقلها بالموعظة حين تكون الهدف المباشر للحكاية، والأهم من ذلك أن تتحول هذه المكونات: الشكل والمحتوى واللغة، إلى ملعب للطفل الذي قد نختلف عن أشياء كثيرة حوله لكننا نتفق مبدئياً على ولعه الأصيل باللعب.
استخدام الكائنات الأليفة ومفردات المحيط المعهودة في القصة يخلق مناخاً حميمياً يستدرج فضول الطفل لمغامرات الكائنات والأشياء التي يعرفها جيداً ، خصوصاً استخدام الحيوانات التي عادة ما يشكل الأطفال علاقات معها ، صداقة أو عداء ، أنس بها أو خوف منها ، ويمثل هذا المحيط مكان السرد القابع في الوجدان والمعدل بفانتازيا تستدعي شحنات هذا المكان المخبوءة في خيال الطفل: الحنش ـ الحوتة ـ الكلب ـ الدجاج ـ الغزال ـ الفار ـ الحطب ـ الراعي ـ المروحة ـ الجرة ـ الخاتم ـ المشط وغيرها من محركات الحدث التي تشد انتباه الطفل نتيجة المعرفة السابقة بها، وتشكل مشاعره تجاهها.
أما الغول أو الغولة فهو كائن أسطوري يحضر في معظم الخراريف متعلقاً بمخيلة الطفل التي تصوغه على هواها ، وبتلك القوة الجبارة التي يشكل تحديها تلبية لنزوع الطفل نحو التغلب على خوفه ، وكثيراً ما تتصف الغولة بالشراهة والجشع أو نزعة الشر الذي ينتظر الطفل نهايته بفارغ الصبر .
كما تخلص الخراريف لنبض الحياة اليومية وطرقها، ما يحفز ذاكرة الطفل ويدغدغ معرفته ، وعندما تحقن هذه الألفة بالخيال الجامح والخرافة تتجاوز المألوف والمحاكاة التي تبعث الملل في الطفل المأخوذ بتهويل الوقائع.. وهذه المحاكاة كثيراً ما تقع فيها القصص المكتوبة بالفصحى إضافة إلى استخدام الحيوانات التي لا يحتك بها الطفل ولا يعرفها إلا عبر الصورة .
تكتسب الخراريف شحنة عالية من التشويق الموشى بخطابات تعليمية وتربوية بما يناسب بنية المجتمع الذي أنتجها، والعودة إلى استكناه تقنيات هذه الحكايات وطرق بنائها سيكون ملهماً لكُتّاب النص الأدبي ، والذي يتطلب حالة من التواشج مع الطفولة في داخلنا ، وحشد كل ما كان يثير الدهشة حولنا ، ويتم هذا وسط تحدٍ كبير من كرنفال الوسائط البديلة والتي لا أقلل من أهميتها كوسائل للترفيه والتثقيف وتأجيج المخيلة ، وإن كان الفرق بينها وبين النص المكتوب ، إن تلك الوسائط المرئية هي التي تخلق الصورة وتتخيل بالنيابة عن الطفل، بينما في النص المكتوب على الطفل أن يحيل المفردات والوقائع إلى صور من بنات خياله. وما يعنينا هو خلق علاقة حميمية بين الطفل والكتاب، ستكون مقدمة لعلاقة دائمة مع القراءة ، خصوصاً ونحن نعرف أن وسائل التعليم لدينا ومناهجنا الجامدة الميتة خلقت علاقة عدائية بين الطفل والكتاب الذي ارتبط عنده بالحفظ والتعب والعقاب . وبأم عيني رأيت أطفالاً يحرقون الكتب المدرسية انتقاماً بعد نهاية العام الدراسي .