خالد يوسف .. عقاب الخروج عن النص
سالم العوكلي
حين تورط الرئيس الأميركي السابق، بيل كلينتون، في علاقة شبه جنسية مع المتدربة في البيت الأبيض، مونيكا لوينسكي، انبرت وسائل الإعلام العربية في حملة تطهر وشماتة في رئيس أقوى دولة فوق الكوكب، وما حصل في النهاية أن كلينتون مَثُل أمام القضاء بتهمة عرقلة سير العدالة وشهادة الزور، وليس بسبب هذه العلاقة غير المكتملة التي احتفظت مونيكا بأدلتها على فستانها الأزرق، بينما ظلت جرائم الحكام العرب طي الكتمان وظلت شماتتهم في كلينتون؛ الذي فضحته مؤسسات الدولة الديمقراطية الحرة والشفافة، على أشدها، وتساءل الكثيرون: كم من فساتين مبقعة بالمني والدم في خزائن أغلب الساسة العرب، واستغرب البعض لماذا لم يستفد كلينتون من الخبرة العربية في مثل هذه الفضائح قبل أن تظهر للسطح عبر التخلص من الشهود بالموت الرحيم؟ تبدأ بدس السم في كوب عصير ولا تنتهي بشاحنة منفلتة تنظف مسرح الجريمة.
في مصر التي يعرف العرب عنها الكثير، تُثار الآن بقوة ما يسمى فضائح المخرج السينمائي وعضو مجلس النواب المصري، خالد يوسف، الذي دفع ثمن دخوله مستنقع السياسة كبرلماني يصعب ترويضه، تاركا نشاطه الجمالي الذي يستوعب حماقاته، ودفع ثمن اتساقه مع أفكاره المؤمنة بالديمقراطية وتداول السلطة وقداسة الدستور كحل لمشاكل مصر، وبإيمانه العميق بالحرية الفردية التي طرحها كمسألة حق إنساني في كثير من أفلامه المغرقة في نبش الكثير من المسكوت عنه في مصر.
خالد يوسف فنان، والكثير من تصوراته لمفاهيم الحرية والقيم الأخلاقية والجمال والتمرد مختلفة تماما عن الغوغاء، كما أن وسائل إدارته للاختلاف لا تتنازل عن أخلاقياتها، وقد صدح بها في كثير من أفلامه الدرامية وحواراته، غير أنه نسي دخوله إلى جحر الثعابين المسمى السياسة، وأن طبيعته المشاكسة والمتمردة على كل ما هو تقليدي أو رجعي ستكون تحت الرقابة ومتربصا بها، وأن السياسة تبرر كل الوسائل للوصول إلى غاياتها، بما فيها انتهاك الخصوصية واستخدام الفضائح لضرب الخصوم، كمنهج لا أخلاقي أسست له دوائر السياسة الصهيونية منذ بدايتها والتي امتلأ أرشيف مخابراتها بأدلة الفضائح المبتزة لكثير من الحكام والمسؤولين العرب، بينما التيارات الدينية الأصولية تنتهز فرصتها الذهبية لضرب الوسط الفني الذي يعكر مشروع التجهم الاستراتيجي لتوجهاتها نحو الدولة الدينية، ليصبح هذا التسريب بقعة العسل التي يجتمع عليها كل الذباب.
ولأن خالد يوسف فنان ومخرج مشاكس كانت نقاط ضعفه واضحة ومتربص بها، وبالنسبة له ،على الأقل، الحرية الشخصية حق مقدس في عرفه الثقافي والجمالي، شرط أن تسمو على الابتزاز أو التحرش أو الاغتصاب، كما يحدث في عالم السلطة التقليدية السري، وفي دوائر البيروقراطية الضاربة أطنابها في المؤسسات المتعلقة بخدمة المجتمع.
الإباحية بالنسبة لخالد يوسف تتمثل في: هذا التطبيل الإعلامي للحكام، وهذا الملق المنقطع النظير للسلطة، والدعارة بالنسبة له هي الكذب على المواطن والفساد الذي ينخر جسد الأمة ويلتهم قوت الفقراء وأحلامهم. الإباحية بالنسبة له هو عيش الملايين في المقابر والعشوائيات وحياة القلة في قصور بنوها من أموال المواطنين المسروقة، والدعارة بالنسبة له هي الرشوة وابتزاز النساء الفقيرات الباحثات عن عمل من قِبَلِ أكبر الموظفين وأصغرهم، والإباحية هي توظيف النساء مقابل المال لضرب الخصوم السياسيين أو التجسس عليهم، ولعل حكاية مقتل سعاد حسني التي تعود الآن للضوء تشرح كل شيء حدث ومازال يحدث.
هاجم القذافي بعنف المدير الذي يتزوج من أمينة سره على سنة الله ورسوله، أو مدير المدرسة الذي يتزوج من معلمة معه، باعتباره أنه سوك لا أخلاقي ونوع من الابتزاز الجنسي، وحين انتهى ظهرت اعترافات من كثير من ضحاياه ومجلدات عن جرائمه الجنسية، أهمها كتاب “الطرائد .. جرائم القذافي الجنسية” كتبَته، عبر شهادات صارخة، الصحفية المحترفة في صحيفة اللوموند الفرنسية أنيك كوجان، يسرد مآسي المختطفات، والمستعبدات جنسيا، والاغتصاب، وانتهاك أعراض بعض المقربين منه وبعض ضيوفه من دول أخرى. ومثل هذه الشيزوفرينيا الحادة هي التي تقود الحملة الآن على عضو مجلس النواب الذي رفض علانية التلاعب بالدستور، وهكذا يحدث وسيحدث دائما، وسيدفع الثمن المقدورُ عليهم فقط من ذوي البطن الرخو الذين لهم رأي مشاكس، أو من يشكلون فرصة بالنسبة للنظم التقليدية من أجل تلويث المناخ الفني الذي هو جزء من المجتمع وكل ما يحدث في المجتمع يحدث فيه.
ربما أخطأ خالد يوسف، الولوع بالكاميرا، بتوثيق لحظات المرح مع من اعترفن أنهن زوجاته، فهو يعرف جيدا كمختص في الدراما المناخَ المحيط به الذي يشكل فيه الإعلام الفضائحي تسليته المحببة في مجتمع المشاهير، ولعبته المدمرة في المجتمع السياسي.
أخطأ خالد في حساباته وفي نزقه الذي لا يليق سوى بالفن، لكن الهجوم عليه هو في الواقع فرصة لتصفية الرأي المستقل، والاغتيال الرمزي لمن لا يستطيع الانخراط في جوقة التطبيل، وهجوم مضمر على السينما حين تكون مختبر أسئلة هامة لمجتمع يمر بأزمات عدة، وعلى فكرةٍ تنبع من أن الحريات الفردية قناعة في الحياة اليومية مثلما هي قناعة في الرأي وفي الخطاب الفني.
يدرك ممارسو طقوس التطهر الجماعي، مَن روّجوا مقاطع خالد يوسف الخاصة، أن منها الملايين المدخرة لكل من يراوده نزق أو رأي مختلف، ويدركون أيضا أن ما أصبح حديث الساعة كان ضمن علاقات حرة لا ابتزاز فيها أو غصب، وأن ملايين من تسجيلات الابتزاز والاغتصاب واستغلال النفوذ قابعة في أرشيف الدوائر المتربصة، حيث الكثيرون لا يملكون فتنة غير النفوذ والمال والابتزاز، بعكس رأسمال فنانٍ موهوب، استطاع أن يثبت اسمه في تاريخ السينما، دون أن يتخلى، مذ كان ناشطا طلابيا، عن مواقفه وآرائه تجاه القيم السياسية الحديثة؛ التي يرى أن تقويضها هو الإباحية والدعارة التي تدفع الأمة وأجيالها المتعاقبة ثمنها الباهظ .
أما رفيقاته اللائي دفعن هن أيضا ثمن انخراط الرفيق في السياسة، فهن قرابين مثل الإناث التي كانت تلقى في نهر النيل كي يهدأ فيضانه وغضبه، وما أكثر القرابين التي تذبح في معبد السلطة تحاشيا لغضبها المدمر.