حين تكره الدنيا
توفيق السيف
أراد القاضي البريطاني دينيس لويد تقديم شرح موجز لتطور القانون. لكن كتابه القيم «فكرة القانون» قدّم ما هو أكثر من ذلك. فقد فسّر بذكاءٍ، العامل المشترك في كل تقرير تاريخي عن المعرفة والإنسان، أعني به: تراجع الأسطورة وتقدم العلم.
في كل خطوة على طريق التاريخ الطويل، يظهر واضحاً أن تحرر الإنسان ارتبط بازدهار الاتجاهات العقلية. يتسع دور العقل فيتطور العلم، فيزداد فهم البشر للطبيعة، فترتفع قدرتهم على استثمارها، فيتقدمون مادياً، فتبرز انعكاسات التقدم المادي على علاقة الناس ببعضهم بعضاً، فيعودون إلى المعايير العقلية ذاتها ليضعوا قواعد أكثر تقدماً للعلاقة فيما بينهم. وهكذا يتطور المجتمع مادياً وأخلاقياً، ويتسع فهم الإنسان لنفسه وعالمه الكبير.
ولفت انتباهي في دراسة لويد إشارته إلى دور الرسالات السماوية في إغناء هذا المفهوم، وإسهامها – من خلاله في تفكيك الأساطير الخاصة بالكون وعلاقة الإنسان بالطبيعة.
المسألة على النحو التالي: في قديم الزمان ظنَّ البشر أن الأعاصير والعواصف والسيول وبقية الظواهر الطبيعية المخيفة، علامات على غضب الآلهة التي تتحكم فيها. إذا غضب إله النار حرك البراكين الخامدة، وإذا نازعه إله المطر حرّك السيول الجارفة. لم يجد البشر الضعفاء حيلة للنجاة من غضب الآلهة المزعومة، سوى منحها القرابين والأعطيات. ويحكي القرآن الكريم قصة النبي يونس، الذي ألقى به ركاب السفينة قرباناً لإله البحر الغاضب، كي لا يغرق سفينتهم.
زبدة القول إن القلق على الوجود شكّل المؤثر الأبرز في حياة الإنسان القديم. ونعلم أن الإنسان القلق على وجوده، لا يفكر في شيء سوى النجاة بنفسه.
ركزت رسالات السماء على أن الكون يعمل وفق نظام دقيق، منطقي وقابل للإدراك، كما ركزت على وحدانية الله، خالق الكون الرحيم الذي لا يعبث ولا ينتقم من خلقه. مع هذا الفهم الجديد إضافة إلى مجموعة الشرائع والقيم الأخلاقية، تخلص الإنسان من قلق الفناء والخوف من طغيان الطبيعة وآلهتها المزعومة، وبدأ يفكر في السيطرة عليها واستثمارها. ومن هذه النقطة بالتحديد تحرك قطار العلم والتقدم في مختلف الاتجاهات.
تاريخ التقدم الإنساني إذن هو تاريخ الخلاص من الخرافة، ونفي الحتميات الموهومة والمسلمات الجامدة، وتكريس حاكمية العقل وفوقية العلم، إنه قصة الانتقال من رهبة الطبيعة إلى استثمارها والتحكم فيها.
لا يخلو العالم من بواعث القلق، ولن يستريح الإنسان من التوتر. لكن الفارق بعيد وجذري بين قلق سببه العجز إزاء الطبيعة القاهرة، وقلق منشؤه تمرد الإنسان على واقعه، وسعيه للتحكم في حياته وعالمه. القلق الأول يحيل الإنسان إلى الهروب نحو الوراء، أي الخرافة وتغييب العقل، بينما يحيله القلق الثاني للهروب نحو الأمام، أي الهجوم على المشكلة والبحث في عقله وعالمه عن حلها.
مثل بقية الأديان السماوية، أراد الإسلام تفكيك الخرافة وعقلنة الفهم البشري للعالم، وأكد على استثمار الطبيعة. لكن – لسبب ما – فإن المسلمين قرروا في أزمان الانحطاط، أن الطبيعة والدنيا كلها لا تستحق العناء. قرّر جمهورهم أن الحياة الدنيا ظرف مؤقت، ومهلة قصيرة في انتظار الحياة الآخرة. لم يعد المسلم قلقاً من بؤس الحياة وتخلفها، وهو لا يرى نفسه شريكاً في بناء حضارة العالم. فكل همّه هو النجاة من النار في الحياة التالية.
ترى… هل يمكن للإسلام أن يسهم في تقدم الدنيا، وأتباعه منصرفون عنها، مشغولون بما بعدها؟
………………..
الشرق الأوسط