حياد سويسري
فرج الترهوني
حتى أسبوع مضى، وبدء حرب بوتين على أوكرانيا، كان العالم يعرف أن سويسرا والحياد مترادفان. هذا الحياد ماركة مسجلة ومعروف بفرادته مثل الشيكولاتة السويسرية الفاخرة، ومثل البنوك السويسرية الآمنة.. فقد تشكلت الكونفدرالية السويسرية على مدى عدة قرون، وتميّزت منذ نهاية القرن الثالث عشر بحرصها على الحياد والسلميّة مع الدول، وابتعادها عن الدخول في حروب مع جيرانها. سويسرا هي أيضاً مهدٌ لمنظمة الصليب الأحمر؛ وموطن لعدد كبير من المنظمات الدولية؛ وتتمتع سويسرا بسمعة الحياد التي جعلت من جنيف موطنًا للأمم المتحدة ومضيفًا لمحادثات السلام في العديد من النزاعات، بما في ذلك النزاع الليبي، والحروب في كوريا وفيتنام. في الآونة الأخيرة، كانت جنيف مكانًا لقمة العام الماضي بين الرئيس بايدن وبوتين.
لا يمكن لسويسرا الانضمام إلى تحالفات عسكرية إلا في حال تعرضها للهجوم. ولا يمكنها اللجوء إلى قواتها إلا للدفاع عن النفس والحفاظ على الأمن الداخلي. كما لا يمكنها اتخاذ موقف من النزاعات الدولية ولا إعطاء قوات أجنبية حق عبور أراضيها. وكان حياد سويسرا مُحترما من قِبل العالم كافة، فحتى هتلر الذي أشعل النار في أوروبا والعالم، كان حريصا على احترام الحياد السويسري.
لكن في ظل العولمة المتنامية، تزداد صعوبة الحفاظ على حياد حقيقي وتقليدي. فقد انضمت سويسرا مضطرة إلى الأمم المتحدة عام 2002، واعتُبرت تلك خطوة كبرى باتجاه الاندماج في المجتمع الدولي.
لكن يبدو أن لحرب بوتين على أوكرانيا ارتدادات عنيفة وعميقة في بنية النظام العالمي، فقد أقرّ كثيرون من العارفين بدهاليز السياسة في العالم أن تصرّف بوتين، الذي وصفوه بالأحمق وغير المسؤول، سيزعزع أسس الجغرافيا السياسية، وستكون له آثار سلبية وسيغيّر الكثير من المعادلات التي تحكم العلاقات بين الدول، وتحديدا في القارة العجوز.
ونتيجة لما يحدث هذه الأيام، تخلت سويسرا عن موقفها التاريخي المحايد بشأن الحروب العالمية والإقليمية، وأبدت موقفا داعما لأوكرانيا بكل وضوح عندما أعلنت أنها ستدعم العقوبات الاقتصادية والمالية ضد روسيا لغزوها وإعلان الحرب على جارتها الغربية.
هذه الدولة الغنية والمستقرة التي تتمتع باحترام العالم الذي يثق فيها، تضم أكثر من 200 منظمة دولية، بما في ذلك ثاني أكبر مكتب للأمم المتحدة. يبدو أنها سئمت الحياد، وبقاءها في موقع المتفرج حيال ما يدور حولها من أحداث جسام. فقد أعلن رئيسها أن “المجلس الفدرالي السويسري قرر تبني عقوبات الاتحاد الأوروبي ضدّ روسيا بالكامل. لأن هجوم روسيا هو اعتداء على الحرية، على الديمقراطية، وعلى السكان المدنيين، وهجوم على مؤسسات دولة حرة. وبالتالي لا يمكن قبول هذا فيما يتعلق بالقانون الدولي، أو سياسيا، أو أخلاقيا”. فاللعب في أيدي المعتدي ليس حيادا كما يقول الرئيس السويسري. أعلنت سويسرا، وهي الوجهة المفضلة للأثرياء الروس وأموالهم، يوم الاثنين أنها ستجمد الأصول المالية الروسية في البلاد، ونحّت جانبا تقاليد الحياد الراسخة.
الأهم وربما الأخطر في الخطوة السويسرية، هي النواحي المالية، لأن مصارف الاتحاد السويسري اشتهرت بأنها ملاذٌ آمن لأموال المودعين من كل العالم، لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها إلاّ بقانون، وهكذا ستجمدُ عقوبات سويسرا أصول “الأشخاص المدرجين في القائمة” من روسيا وستحظر أيضًا الأشخاص “الذين حددتهم مجموعة عقوبات الاتحاد الأوروبي” ، وأغلبهم ممن ينطبق عليهم وصف (الأوليغاركية) وهم فاحشو الثراء الروس المقرّبين من بوتين، حيث سيُمنعون من القدوم إلى البلاد. وسيتم إغلاق المجال الجوي السويسري أيضًا أمام جميع الرحلات الجوية القادمة من روسيا، كان أوّل ضحاياها وزير الخارجية الروسي لافروف، الذي كان من المقرر أن يكون في جنيف لإلقاء كلمة أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.
يمكن رسم أوجه تشابه واضحة للغاية بين ما يجري الآن مع بداية الحرب العالمية الثانية، فمسار العدوان الروسي مشابه جدًا لتلك التي استخدمها نظراؤهم من الرايخ الثالث على الأراضي الأوكرانية قبل 80 عامًا. وربما هذا ما دفع سويسرا للتخلي عن حيادها الشهير، وربما كانت الرسالة التالية التي أعلن عنها سفير أوكرانيا لدى الأمم المتحدة، عندما قرأ رسالة نصية من جندي روسي قُتل فوق الأراضي الأوكرانية وجهها إلى والدته.
يقول الجندي: “أمي ، أنا في أوكرانيا. هناك حرب حقيقية هنا. أنا خائف. نحن نقصف كل المدن، حتى نستهدف المدنيين. قيل لنا إنهم سيرحبون بنا، ولكنهم يسقطون تحت عرباتنا المدرعة، ويلقون بأنفسهم تحت سياراتنا ولا يسمحون لنا بالمرور. إنهم يدعوننا بالفاشيين. أمي، الوضع صعب للغاية” العالم يتغيّر وبسرعة، وما تخلي سويسرا عن حيادها سوى علامة كبرى على التبدل المستمر في حركة التاريخ.