مقالات مختارة

حكومة لبنان الجديدة: مسك ختام الانقلاب

سام منسى

لعلَّ أيَّ مقاربةٍ واقعية تقضي بعدم رفض حكومة الرئيس حسان دياب التي تشكلت بعد مخاض عسير، ومنحها فترة سماح لأنها تضم بعض الشخصيات المشهود لها بالكفاءة والنزاهة قد تلامس «مواصفاتهم» تلك التي حددها المنتفضون في شوارع بيروت المنكوبة بعدما بات بعض من الحراك يميل يائساً إلى الشغب والعنف وسيلةً للتعبير عن قرفه وضيق عيشه.
إلا أن إعطاء فرصة لهذه الحكومة كان ليكون صحيحاً وضرورياً لو أن أوضاع البلاد طبيعية وعادية، إنما البلد يمر بأصعب أزمة بنيوية سياسية واقتصادية – اجتماعية هي الأخطر منذ تأسيس الكيان قبل مائة سنة، يصح معها التشكيك في قدرة هكذا تشكيلة على إخراج البلاد منها. إلى ذلك، فإن ولادة الحكومة الجديدة شكلاً ومضموناً وما رشح عن كواليسها حول هوية صانعيها، حملت معها خطايا جمّة وفاقعة أظهرت استخفافاً بحقيقة الوضع يصح وصفه بالميكيافيلي والاستفزازي.
الخطيئة الأولى التي تُسجّل هي أن الحكومة التي وُصفت عن حق «بحكومة اللون الواحد» لم تأتِ بحجم الحدث العاصف. فلبنان، يشهد منذ ما يقارب المائة يوم حراكاً احتجاجياً استثنائياً في وجه طبقة سياسية استثنائية في سوء إدارتها وحجم فسادها وتغليبها المصالح الخاصة على المصلحة العامة كما المصلحة الوطنية واستغلالها العصب الطائفي في سبيل تحقيق مكاسب سياسية وهمية وقلة تقديرها للنزاعات الإقليمية ومآلاتها وإمعانها في اللف والدوران والكذب والتكاذب على المجتمع العربي والدولي معاً ودخولها في مواجهة دونكيشوطية معهما، حتى باتت الدولة «دولة فاشلة» دخلت أتون الانهيار الشامل بعدما انهارت أخلاقياً ووطنياً. طبقة سياسية هي نتاج حرب أهلية نقلتها من الشوارع إلى المؤسسات، فأمعنت فيها تدميراً وتهشيماً وغيّرت ملامحها تماماً كما غيّرت الحرب ملامح البلاد. فكيف لحكومة كهذه مواجهة تحديات بهذا الحجم وهي الخارجة من رحم هذه الطبقة السياسية وإن حاول الأصدقاء – الأعداء من «قابلاتها» تغليفها بغلاف الاختصاصيين والمستقلين؟
الخطيئة الثانية المسجلّة هي في كون هذه التشكيلة تحاكي الحكومات الإقصائية التي كانت تُشكّل إبان عهد الرئيس اللبناني السابق إميل لحود، في مرحلة الوصاية السورية، وفي سابقة تاريخية، فاقتها في تغييب أقطاب وازنين من المكوّن المسيحي والسني والدرزي معاً، وأحيت أدوار رموز مرتبطين بالنظام السوري تحرِّكهم مشاعر التشفي ويعزز «بعثهم» سطوة «حزب الله». كل هذا في وقت لم تعد فيه سوريا «الأسد المزمجر» بل أصبح لديها بدورها أوصياء يتحكمون في صناعة القرار، وتعاني إيران من تحديات جمَّة، بدءاً من الحراك الداخلي المتنامي ضد حكم الملالي، والوضع الاقتصادي الصعب جراء العقوبات الأميركية، والشقوق العميقة في مشروع هيمنتها مع ما تشهده ساحاتها الخارجية مثل سوريا والعراق ولبنان من حراك شعبي مناهض لها، وتغير المواقف الأوروبية من سلوكها بحيث أصبحت معه أقرب إلى موقف الإدارة الأميركية المتشدد. هذا، إضافة إلى تصميم المجتمع الدولي على تطويع الحالة الإيرانية وجلبها إلى طاولة مفاوضات تطرح إلى طموحها النووي مشروعها التوسعي بعامة. وسط هذا المشهد الإقليمي والدولي، هل من حكمة في تشكيل حكومة من لون واحد قد تجرّ على لبنان المزيد من الويلات؟
الخطيئة الثالثة هي في كون عدم التعقل في تأليف الحكومة وصل حد الغلبة المذهبية التي عمّقت الشرخ السني – الشيعي. فعلى الرغم من إصرار الثنائي الشيعي بدايةً على تسمية الرئيس سعد الحريري لتشكيل الحكومة الجديدة، فإنهما لم يقدما له أي تنازلات ولم يتورَّعا عن المضي قدماً في تسمية شخصية أخرى دون أي اعتبار لغطاء سني أو لميثاقية هما مَن اخترعها عندما استقال وزراؤهما من حكومة السنيورة عام 2006.
بعد مقتل قاسم سليماني، قد يكون «حزب الله» أراد من هذه الخطوة تأكيد ألا تراجع في المشروع الإيراني فبادر إلى تشكيل حكومة دون ورقة التين السُّنية التي أصر عليها سنوات عدة، وأعطت الحكومات السابقة شرعية سنية حتى وإن كان رئيسها مقيداً كالعصفور في القفص. يبقى أنها دون أدنى شك استكمال لمشروع سيطرته على لبنان ومسك ختام انقلابه الذي باشره مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، من ضمن المشروع الإيراني الهادف إلى تحقيق الغلبة الشيعية في الإقليم عبر تطويع السُّنة. فكان إقصاء السُّنة في العراق وحكم الأغلبية الشيعية النافر والمتعثر، ومنع سقوط نظام آل الأسد في سوريا مع كل المجازر التي ارتُكبت ضد الشعب، وصولاً إلى لبنان الذي يسير منذ عام 2005 في خطّ تصاعدي باتجاه محور إيران – سوريا مع ما ترتب على ذلك من إضعاف للمكون السني وإطلاق النار المتكرر على اتفاق الطائف بعد أن جُوّف زمن الوصاية السورية، والمطالبة علناً بمؤتمر تأسيسي يأتي بنظام يقوم على المثالثة بين المسيحيين والسنة والشيعة بدل المناصفة بين المسيحيين والمسلمين. إنّ مضي «حزب الله» في هذا المنحى الانقلابي التصاعدي يشي أيضاً بتخوفه من استحقاق التسوية الأميركية الإيرانية، وهو يعمل بالتالي على تثبيت موقعه في لبنان دستورياً وتشريعياً، حتى متى أنجزت يكون قد حصّن نفسه، وأصبح قادراً على لعب دور فاعل ومؤثر في صناعة القرار المركزي من دون الحاجة إلى فائض السلاح والقوة.
الخطيئة الرابعة هي فيما تؤشر إليه هذه التشكيلة عبر حيثيات ولادتها وبعض رموزها، من أنها ستولي الشق الأمني أولوية وستمسك عصا القمع الغليظة في التعامل مع الحريات بعامة والحراك بخاصة، في استجلاب لزمن الوصاية السورية ومحاكاة مصغرة لما تشهده الساحة العراقية. يضاف ذلك إلى النشاط الاستخباراتي الكثيف الذي يتبدَّى عبر ظهور مجموعات خارجة عن الحراك تقوم باسمه بأعمال شغب منظمة في توقيتها واستهدافاتها، وتعيث دماراً وتخريباً في وسط تجاري لعله آخر ما تبقى من معالم لبنان كجوهرة الشرق وجسره إلى الغرب. كل هذا لإفقاد الحراك شرعيته وقوقعته، علماً بأن اختلاف الآراء في صفوفه خير دليل على أن شعب لبنان هو الذي يثور وليس فريقاً منه، شعب جاء من مناطقه كلها ومن مكوناته كلها ومن طبقاته كلها بمن فيهم المثقف والأمّي، الهادئ والغاضب، الرجال والنساء، المؤدبين وغير المؤدبين، ويضاف إليهم من يعد حقائبه للرحيل.
الحذر واليقظة ضروريان في هذه المرحلة، حيث التردد طبيعي أمام دولة مستباحة ومجتمع يئنّ وهما عند مفترق طرق. يبقى أنه من المؤسف فعلاً أن يتم في الذكرى المئوية لتأسيس لبنان تدمير الكيان، وجر ما تبقَّى منه إلى فلك ورؤية وفلسفة تخالف كل ما قام عليه.

المصدر
الشرق الأوسط
زر الذهاب إلى الأعلى