حكاية “نجلاء”.. إرث من ألوان
ليبيا ادريس
في كل مرة تدخل حوارًا مختلفًا مع قطعة القماش؛ باستخدام الفرشاة والألوان، يصعب عليها أن تنهيه، كأنه حوار غني مُشوّق مع صديق لا يملّ، أو لعبة مسلية لا تعرف متى تضعها جانبًا، بداياتها مثيرة ومنتصفها ممتع وقرار إنهائها صعب “فيه لوحات خليتها سنة واثنين ورجعت كملتها، وفيه لوحات غيرتها بعد فترة طويلة مع إني كنت نعتقد إني أنهيتها”. تقول حين بدأت حكايتها؛
تسعي التشكيلية الليبية، نجلاء شوكت، جاهدة إلي التجديد والتنوع والتغيير في مواضيعها وأساليبها، وهي التي أصبحت خطوطها المميزة وألوانها الحيَة وبساطتها المعقدة؛ بصمتها وهويتها الفنية “لوحاتي تشبهنا، ألواني هي انعكاس لشمسنا، والحالة هذه مش حابَة إني نطلع منها، نبي نرسم ليبي ونبي نتأثر بالمحيط والمجتمع وليبيا”؟
مدرسة المنشية:
“كانت كشاكيل الرسم ترافقني أينما حللت، ومدرسة المنشية الخاصة دور كبير في زيادة شغفي بالرسم حيث حظيت بالتشجيع من قبل المدرسات، كن يطلبن مني رسم الجداريات لتزيين الفصول” كانت المدرسة راعية للفنون، بالرغم من أنها أغلقت بعد سنوات معدودة من ألتحاق نجلاء بها، تطبيقا لقرار إلغاء التعليم الخاص في ليبيا، إلا أن تأثيرها كان كبيرا على مسيرتها الفنية.
“استمرت كشاكيلي في التزايد” وروحها الفنية بالتألق، ومما زادها شغف بالفنون هو أهتمام والديها باقتناء اللوحات وقطع الأثاث الكلاسيكية.
ومع تخرجها من الثانوية العامة كانت خطتها الجامعية واضحة، كلية التربية قسم إنجليزي، لكن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن، ففي نفس العام تقريبا ألغي قسم الانجليزي، وأصابها الأمر بما يشبه الصدمة وقررت أن لا تكمل دراستها الجامعية، نقلت لعائلتها أنها اكتفت بهذه الدرجة من التعليم ورفضت ترشيحاتهم لكليات أدبية أخرى.
تستذكر “نجلاء” أنه “بعد مرور أشهر، جاني بابا وقالي في قسم صغير في كلية التربية أسمه رسم وتصوير، يلَا نشوفوه! شخصيًا استغربت ” حتى ذلك الوقت وبالرغم من أن هوايتها الفنية لم تفارقها، إلا أن نجلاء لم تكن متابعة لهذا المجال محليًا، ولم تتوقع انه من الممكن أن يكون هناك تعليم عالي للفنون، وأن الصدف قد يكون لها في حياتها نصيب.
كلية الفنون – جامعة الفاتح “سابقا”
كان القسم حديثًا وبالرغم من أن نجلاء كانت في الدفعة الثانية إلا أن عدد الطلبة كان صغيرا جدا، لا يتعدى الخمسة أو ستة، كان القسم عبارة عن غرفتين إحداهما للموسيقي، و تحتوي على بيانو وبعض الآلات الموسيقية، والأخرى للرسم، “دارولي مقابلة شخصية، وقبلوني على طول، كان الأمر مختلطًا علىَ، هل سأدرس الرسم؟! كيف لي أن لا أفكر في ذلك مسبقا؟”.
تواصل “نجلاء”: “بعد سنة من بدء الدراسة فتحوا كلية الفنون في قرجي ونقلونا إليها وحينها حدث إقبال أكبر على الكلية، والجدير بالذكر أيضًا أنه في أول السنوات لم يكن هناك نسبة طالبات تذكر، كانت ضئيلة مقارنة بالطلبة الذكور” وفي تفاصيل الحكاية ذكرت لي “نجلاء” أن الوضع اختلف بعد ثاني سنة للكلية، حيث تجاوزت نسبة البنات البنين.
وعن الأساتذة وأعضاء هيئة التدريس، “نجلاء” حكت لي مطولاً، فيبدو أن تأثيرهم على مسيرتها وتوسيع مداركها كان كبيرا ولازال مستمرا بعد كل هذه السنوات.. “كان أغلب أساتذة قسم الفنون الجميلة في فترة الثمانينات متعددي الجنسيات من “العراق وسوريا والسودان ومصر” من خريجي روسيا وأوروبا وبما أنهم من المغتربين المبعوثين للعمل في ليبيا، وجدوا في طلابهم الأصدقاء ولم يبخلوا علينا بعلمهم، وعند انتقال القسم إلي قرجي حيث كلية الخدمة الاجتماعية سابقا، حول الطلبة غرف المبني إلي مراسم ومكاتب وخلينا “شوي” غرف للمحاضرات النظرية، كان بالمبني حديقة كبيرة وفيها حوش تشرق فيه الشمس من كل اتجاه”.
وتضيف “نجلاء”: “المبني كان مناسبا جدا ككلية فنون، وكان أغلب الشغل خارجي، كنا نمشوا للميناء والمدينة القديمة ونمشوا لأماكن فيهم مناظر طبيعية، هذا كله حببني في الرسم ووسع أفق إدراكي للجمال، كان الأساتذة ينصحوننا بالقراءات ويدفعوننا إلي التجديد، نحن نسموا في الفترة إلي عاشتها دفعتنا بالمرحلة الذهبية”. و من ما روته لي نجلاء يبدو أن الأساتذة كانوا بالفعل رواد في أساليبهم التعليمية الحديثة، يشجعون الطلبة على ممارسة فنون الرسم خارج نطاق الأسلوب الأكاديمي النمطي “بالتأكيد تعلمنا الرسم الواقعي والتشريح والتفصيل وما إلي ذلك، لكن كان هناك اهتمام بالرسم الحر، وهذا أعطانا جرأة في الطرح بعيدًا عن الروتين. بالنسبة لي ودفعتي نعتبر أنفسنا تأسسنا كويس، على يد أساتذة درسوا الفنون في أوربا وكانوا من الرواد في المنطقة “.
بالرغم من أنه لم يكن لتلك الدفعة الذهبية أي ميول سياسي إلا انه كما روت لي نجلاء كانت هناك مراقبة عليهم حتى داخل الكلية، مما دفعهم إلى اتخاذ الفن ملجأ والتركيز على مواهبهم والاعتكاف على تطوير تقنياتهم “ماكناش نفكروا هلبة في المستقبل، كنا عايشين يوم بيومه، و كانت الكلية بيئة آمنة”.
نجلاء ويوسف
عندما كانت “نجلاء” في السنة الثانية من التعليم الجامعي حوَل يوسف فطيس ملفه الدراسي من كلية الإحصاء إلي كلية الفنون، سعيا وراء حلمه، وكان لقاؤهما الأول حينها، ولم يفترقوا بعدها. تقول “نجلاء”: “أنا ويوسف قعدنا أصحاب وزملاء ونشتغلوا مع بعض، متفاهمين في الشغل وعلاقتنا كنت مبنية على التعاون والدعم والتشجيع، حتى الـ97 لما تقررت له البعثة لفرنسا ووقتها قررنا تتزوجوا ونسافروا مع بعض”.
كان الاتفاق بين “نجلاء ويوسف” مبنيًا على الاختلاف في الطرح، تقول نجلاء “كانت لوحاتنا مليئة بالتعابيروالحرية، كنا نطلعوا على تجارب الرواد الليبيين الأقدم منا ، بس كنا نبوا نديروا شئ تراثي بشكل جديد ومختلف” وعن دعم يوسف لها تقول “مرة يوسف طلع رحلة للجنوب الليبي وأنا ماقدرتش نمشي لانا ماكناش متزوجين وكان السفر الداخلي صعب، يوسف صوورلي كل حاجة، روح بمجموعة هائلة من الصور، كنت زي الكنز لما روحلي بيهم، حولتهم كلهم للوحات تعبيرية”.
نالت “نجلاء” دعم “يوسف”، ونال هو دعمها، وتتذكر كيف أنها بعد فترة الحمل والولادة انشغلت عن الرسم، وكان هاجسها آن تنساها فرشاتها ولوحاتها من جهة أو ان تقصر في حق أبنائها من جهة أخري، فكان يوسف ميزان التوازن بدعمه وتشجيعه وتؤكد “نجلاء” أنها تخطت الكثير من الحواجز والعراقيل وتذللت المصاعب لأن يوسف مؤمنًا بها.
دار الفنون-طرابلس
خلال سنوات الدراسة كانت “نجلاء” ترسم لمجموعة من المجلات المحلية، رسومات ترافق أبيات شعرية وبعض المقالات.
بعد التخرج مباشرة؛ طلبت السيدة (جابي) الألمانية المتزوجة من رجل ليبي من نجلاء أن ترسم لها لوحات للمقهى الذي تخطط لافتتاحه في قرقارش، ويوم افتتاح المقهي (دي فيلا) كان أول معرض فردي (سولو) للوحات نجلاء “كنت وقتها نرسم في الزهور وعبيت المقهي برسومات زهور تعبيرية تجريدية وبعت الكثير منهم، من وقتها كان هدفي أن نترك بصمة، أن نرسم أشياء بسيطة زي الورود مثلا لكن بطريقتي وخطوطي والواني الخاصة بحيث الًي يشوف اللوحة يقول هذي لوحة نجلاء، ومايدورش على التوقيع”.
بالرغم من أنه لم يكن هناك دور عرض تدعم الرسامين الشباب في طرابلس أوائل التسعينات ولا غيرها، إلا أن حياة الخريجين لم تقلق نجوي، فانشغلت في مرسمها الصغير حتي جاء يوسف محملا بخبر سار عن افتتاح دار الفنون في طرابلس، وعن أنهم طلبوا من طلبة الفنون التقديم للعمل بالدار.
وبالفعل تقدمت “نجلاء ويوسف” وعدد كبير من الشباب واجتازوا الاختبار الأولي، وفرت لهم الدار المراسم والأدوات، وأمهلتهم شهرين كفترة اختبار وتجربة، كان المبني عبارة عن مجموعة غرف مجهزة، بكل غرفة يعمل 5 أو 6 رسامين ” كانوا يقولونا خوذوا الكاميرا واطلعوا صورو طرابلس كلها وروحوا ارسموا إلي صورتوه، وكانوا ياخذونا رحلات بالباصات ليفرن وغريان ونمشوا لمدن مختلفة في ليبيا ونصوروا ونروحوا نرسموا”.
خلال تلك الفترة؛ فتحت عيون “نجلاء” على التراث والعادات الليبية، وتنامي شغفها بكل ما هو ليبي ولم يقل هذا الشغف من بعدها وأصبح جزء من هوايتها الفنية التي تميزها عن غيرها.
وبعد شهرين تقريبا من الزيارات الميدانية والرسم والإنتاج المتواصل، اختارت إدارة دار الفنون أربعة من عشرات المتدربين و هم نجلاء ويوسف وعفاف الصومالي وعبدالرزاق الرياني، وتحصل الأربعة على عقود عمل في الدار، تقول “نجلاء”: “أنا ماكنتش مصدقة اصلا، حددولنا معاش وبدوا يديرولنا في معارض وقعدنا نديروا في ندوات وورش عمل”. كانت أحلاما وصارت معايشه، وتحولت الهواية إلي مهنة إن صح التعبير.
الليبيات
“المرأة في العالم كله محصورة للنقد ولم ينصفها أي مجتمع الا بعد ما تثبت وجودها ” وهذا ما تحكيه لوحات نجلاء التي غالبا تحضر فيها الليبيات ولو بطريقة غير مباشرة، وتضيف “قضية المرأة مرسومة من اكثر من ألفين سنة، لو تابعنا الفن حنلقوا اللوحة ما تمشيش إلا بوجود مرأة لأن النساء من اهم محاور الدنيا” تصف “نجلاء” تصوير المرأة في لوحاتها بأنه إرضاء لذاتها وقناعتها.
دمجت “نجلاء” كل القضايا التي تناولتها برسوماتها باليبيا والليبيات “لم جتني حالة رسم تقاليد الاعراس والازياء الليبية كنت نمشي للأعراس وما نقدرش نصور نقعد ندقق ونتأمل في العروسة، وفي الأزياء ويوم الحنة ويوم القفة ونصور بعيوني، كنت نصور في أقاربي بالزى الليبي ونقوللهم ح نرسمكم ومش ح تبانوا كنت نجمع في الصور ونركب ونلعب كنت نجرب ومانخافش من اللون، وفي الأخر تطلع حاجة صادقة، وقريبه من الحقيقة” تدمج نجلاء بين نهم القراءة والثقافة والاطلاع وبين الصلات القوية بمحيطها وبيئتها فتغذي مخيلتها بقصص صديقاتها وصديقاتهم ومواضيع مجتمعنا “نحب نحكي قصص ليبية بالوحاتي قصص من مجتمعنا وتشبهنا، وهذا حتي لما شاركت في معارض في اوربا وامريكا لوحظ وقدر من الجماهير”.