حصان سلامة… وسدرة الملتقى
رفعت المحمد
حين قبل غسان سلامة بالمهمة الموكلة إليه كمبعوث أممي إلى ليبيا كان يدرك تماما حجم ما ينتظره، من تعقيدات وإرث ثقيل، وتركة نظام استبدادي جثم على صدور الليبيين أربعين عاما. فقد ألف الحرب، بل عاشها وخبرها في وطنه لبنان لخمسة عشر عاما، ويدرك تماما ما تخلّفه من دمار في البشر والحجر، لكنّه جاء مدفوعا بطموح لا يحدّ، أولاً لإنهاء أزمة يعيشها بلد عربي، وهو الذي لم تستطع الفرانكفونية استمالته إليها فحافظ على هويته العروبية العميقة، مستندا إلى بعد أكاديمي، وثقافة لا تمر مناسبة أو تغريدة إلا وتتمظهر بين سطورها، وثانيا مدفوعا بطموح شخصي لتحقيق إنجاز على مستوى أممي قد يرشحه لمنصب أعلى من “مبعوث”، فالرجل سبق وتخلى عن مناصب مدفوعا نحو الأعلى، ولن تثير شهيته إدارة معهد كسلفه، خاصة لو علمنا أنه أسس معهد العلاقات الدولية في فرنسا ليستقيل منه بإرادته، ثم ترشّح بقوة ليكون مديرا لليونسكو، وانسحب لأن ترشيحه لم يكن باسم لبنان، وتسلم وزارة الثقافة في لبنان لعامين، ومن المفارقة هنا أن يعايره أحد مناضلي “لايف الفيسبوك” والمستميتين في حب ليبيا من الخارج، بمنصبه هذا، وكأن الثقافة باتت مسبّة.
سلامة جاء إلى ليبيا بمؤهلات وخبرات في حل النزاعات، ولم يحل بينه وبين أن يكون مبعوثا لسوريا، وهي التي لا تقل أزمتها تعقيدا عن الأزمة الليبية، إلا كونه من بلد مجاور، وهذا شرط لا يمكن تجاوزه حفاظا على حيادية المبعوث، كما عمل مستشاراً للأخضر الإبراهيمي خلال مهمته للعراق، ونجا من الموت في انفجار مبنى الأمم المتحدة في بغداد عام 2013، ولربما كان ذلك سببا في إصراره على البقاء في طرابلس في مناسبات عدة كانت القذائف تتساقط فيها من كل حدب وصوب.
الرجل الـ”جنتل”، أعلن تخليه عن “ياقته الصفراء” وهو يحاول إبطال مفعول حقل الألغام الممتد على الجغرافيا الليبية، متسلحا بمعرفته تماما بخرائط التحالفات وارتباطات المصالح، فوقف على مسافة واحدة من الجميع، لكن يبدو أن حقل الألغام هذا أقلّ خطورة من الرمال المتحركة التي بدأت تسحب الجميع إلى درك الحرب الأهلية، دون أن يمتلك أحد بمفرده سبل النجاة منها، فكل حركة مفردة تعني غوصا أعمق.
سلامة وقبل أيام كان استبشر خيرا بعقد الملتقى الجامع، وجهز العدة والعتاد لإنجاحه، بعد جهود ماراثونية لتحقيق توافق بالحد الأدنى بين الأطراف، لكن “حساب الحقل لم يتطابق مع حساب البيدر”، وبرزت تطورات على الأرض دفعت نحو التصعيد العسكري، ليستحضر سلامة وفي اليوم الذي كان مقررا لعقد المؤتمر، حكمة زهير بن أبي سلمى في نبذ الحرب، مكتفيا بما تسمح له حروف تغريدته، “فإنما الحرب ما علمتم وذقتم”، ليترك لذاكرتنا وخيالنا إكمال كلماتها:
مَتَى تَبْعَثُوهَا تَبْعَثُوهَا ذَمِيمَةً … وَتَضْرَ – إذا ضَرَّيْتُمُوهَا – فَتُضْرَمِ
فَتَعْرُكُكُمْ عَرْكَ الرَّحَى بِثِفَالِهَا … وَتَلْقَحْ كِشَافاً، ثُمَّ تُنْتَجْ فَتُتْئِمِ
ولأن المخلّص في أي نزاع غالبا ما يناله النصيب الأعلى من ضربات الطرفين، فقد انهالت الانتقادات لسلامة، واتخذت أحيانا شكل الشتائم، محملين إياه أسباب الحرب، وكأن خلافهم نشأ بعد قدومه، وها هو الآن يقف بين الطرفين، محاولا إقناعهما بالعدول عن الحرب، بينما يلقم كل منهما سلاحه، ويجهز قاذفاته، ولسان حاله يخاطب سلامة: “هذا حصانك.. وهذه غدامس”.