حروب العصيدة الليبية
فرج عبدالسلام
مرّت بالوطن الليبي حروبٌ عديدة أربكتهُ وجعلته يترنح، فلم يعرف للاستقرار سبيلا، وإذا غضضْنا النظر عن الماضي القريب والسحيق وأمسكنا فقط بسجلات التاريخ منذ انقلاب سبتمبر، الذي شنّ صاحبُه حربا على الاستقرار في بلدٍ كان في طريقه ليصير جوهرة النمو والتقدم في المنطقة بأسرها، فأدخله بالتالي في حروبٍ داخلية لا تُحصى، عادى فيها الليبيون بعضهم البعض لأربعة عقود طوال، ولم يسلم الأمر من حربٍ هنا وتدخل خارجي هناك من تشاد، مرورا بأوغندا، ومصر، ولبنان، وتمدّد حتى الفليبين ونيكاراغوا، فقدنا فيها آلاف الأرواح، والأموال الطائلة، والصيت الحسن الذي عرفنا به في العالم كشعب ودود مسالم “يخدم على روحه”… والنتيجة أننا تحصلنا بامتياز على شهادة في الإرهاب الدولي، فلا الليبيون آمنون في بلدهم، ولا هم سلِموا بطشَ بني جلدتهم في أصقاع الأرض… ثم جاءت ثورة فبراير التي شهدت منذ اندلاعها حروبا أهلية من طراز رفيع، اختلطت فيها كافة الأوراق الجيدة والرديئة… وسقطت الأقنعة التي ارتداها الليبيون، كما تبخرت خلالها الكثير من القيم الإنسانية التي طالما ادّعينا أننا نحوزها دون غيرنا… ألسنا في النهاية بلد المليون حافظ؟
بالعودة إلى موضوع العصيدة الذي انفض موسمها هذه المرة على خير تقريبا، وتم ترحيل حروب العصيدة إلى عام جديد بعد معركة تغلّبت فيها المقاومة الشعبية التلقائية على الأفكار الشاذة الواردة، بالرغم من أننا لا ندرى الشكلَ الذي ستتخذه حرب العصيدة ولا المدى الذي ستصل إليه في الموسم القادم.. لقد أكلها من أكلها سرّا أو جهارا متباهين بتناول هذه الوجبة المحرّمة في تحدّ واضح، لمْ يخل من الطرافة أحيانا، لإصرار أنبياء العصر الجديد الذين يستقون وحْيهم المُحدَث وفتاويهم من بلاد بعيدة، والذين يصرون في كل عام على التنغيص على مواطنيهم بتحريم أكلها، بل وذهب من اكتملت لديهم المعرفة الحقة والنور الرباني إلى حد تلبيس صفة الشرك على آكليها في مناسبة المولد النبوي… لكن الحكاية على طرافتها من جانب.. وبؤس ما يجرى حولها من لغط وشغب، لم تخل من جوانب إيجابية… أولها الإقرارُ بأن الليبيين وحّدتهم العصيدة بعد أن فرقتهم السياسة.. وثانيهما الهزيمةُ الواضحة لحزب التزمت والأفكار الغريبة التي طالته في ربوع الوطن.
لكن قبل الخوض في قصة العصيدة الليبية وما تتعرض له من شدّ وجذب أدى إلى علوّ شأنها بعد أن كانت وجبةً بسيطة شبه مهمّشة، نقولُ إن جيلنا، وحتى من سبقنا، لم ير لها خصوصية معينة، خلا ارتباطها في الغالب بـ “اللمات” النسائية التي تجري بعد خروج مولود جديد إلى الدنيا، وربما لهذا السبب ارتبطت أيضا بعيد المولد النبوي أو “الميلود” كما نعرفه فدرج الليبيون في شرق البلاد وغربها وجنوبها على اقتراف إثم إعداد قصعة العصيدة في صباح يوم “الميلود” دون أن يرتبط ذلك في أذهانهم بأي طقوس أو شعائر دينية سواء كانت إيمانية أو شركية، مثل عادة طبخ الفول والحمص في ليلة عاشوراء.
الا يحق لنا إذاً السؤال البسيط عن الذي يجعل العصيدة في قلب معركة حامية الوطيس شنها الإسلامويون الجدد، الذين علا شأنهم بعد فبراير حين امتلكوا القوة، وأيقنوا من خلوّ النجع من سلطة حاكمة التي تستطيع لجم نزواتهم الغريبة عن روح المجتمع السائدة… ألم يكتف هؤلاء القوم بترهيب مواطنيهم بهدم الآثار الليبية والأضرحة، وحتى بيوت الله، بحجة أنها تدعو إلى الشرك.
ألم يكتفوا بفعلتهم المتكررة عندما هاجموا أماكن الترفيه ورموزه مصرّين على حرمان الليبيين من قليل من البهجة والفنون، لتعويضهم عن العيش في هذه المفازة وفي هذا الزمن الأغبر. ألم يكتفوا بمطاردة كل ما له علاقة بالثقافة والكتاب والعلم، ونحن لم ننس بعد ذلك العالم الجهبذ الذي أتانا ركبا طائرة اخترعها الكفار، ومع ذلك يريد إقناعنا بأن كل من يقول بكروية الأرض فهو كافر.
نحن من يشجعُ عن دراية أو بدونها، على انتشار هذه الأفكار الظلامية، على الأقل بسكوتنا عنها، حتى نفاجأ ذات يوم بأن أولادنا يرفعون تهمة الشرك في وجوهنا… وحتى نجد حلولا ما لكل قضايانا العبثية التي ستقودنا إلى الهلاك إن استمررنا في عنادنا، يمكننا على الأقل تحقيق الفوز في حروب العصيدة كما أثبتت الأيام الماضية.
العصيدة هي أحد خطوط دفاع الليبيين ضد الأفكار المنحرفة، من خلال تحوّلها إلى فعل مقاومة، وليحيا “سبر” العصيدة بالرب أو العسل أو السكر، أو حتى بالقديد.