حديث التاريخ والذات الليبية
احميد عويدات
ما هو المستقبل في ليبيا بعد هذه الانتخابات؟ هذا ما يشغل بال الليبيين في داخل البلاد كثيراً، خصوصاً في الأروقة الضيقة لمكاتب الحكومات شرقاً و غرباً، وعلى جبهات القتال بكل مكان، وحتى في أواسط الليبيين الهاربين للخارج لأسباب مختلفة، هذا السؤال الملحاح يُباغَتُ في كل مرة بالجواب النكوصي ذاته، إنه بالعودة إلى الماضي سيتغير كل شيء.
عند مناقشة السؤال مع الأغلبية يتمسك عددٌ من الليبيين بعودة نظام القذافي، متحججين بأيام الأمان ووفرة الخدمات والسيادة الوطنية في وقته ويتمسك غيرهم بالعودة إلى حكم الملكية الشرعي في نظرهم، أما بقيتهم فيصرون على نموذج دولة السعودية وتطبيق الشريعة الإسلامية، وما هي إلا لحظات حتى يشتبك الجميع في شجارٍ مر، حول الماضي الأولى ليتطور إلى عنفٍ لفظي يشمل كل أنواع القذف و التخوين و كذلك التكفير، ويبدأ الكل في لوم الكل على الوضع الذي انتُهي إليه، ويشرع كل فريق في تعداد ضحاياه، كمبررٍ أخلاقي لقتل ضحايا الآخر.
وبالكاد تجد ليبيّاً واحداً يتمسك بحقه في حجز مكانٍ له بالمستقبل القريب، واضعاً نُصب عينيه أخطاء ذلك الماضي المدمِر، و تاركاً من حوله وتجارب دول و امم اخرى وقفت بعد حروب أشد و اعتى من المستنقع الذي نعيشه، بل و حققت قدراً من الديمقراطية والشفافية وحقوق الإنسان والمواطنة جعلتها تصل الى مصافي الدول الكبرى .
إن الذين يصرون على عودة نظام القذافي، كانوا قد تخلوا عنه اكثر من مرة على مدى تاريخ حكمه الطويل، لأنهم كانوا مجرد نفعيين لا اكثر بعيداً عن خرافة حب الوطن، فعودة النظام او ابن النظام معناه عودة مصالحهم التي انقطعت بسقوطه، وأول مرة تخلوا فيها عنه كانت بمنتصف الثمانينات أثناء الغارة الأميركية على بنغازي وطرابلس، حين هرعوا لتمزيق ملفاتهم بمكاتب اللجان الثورية، والثانية حين انتفضت بنغازي وغيرها في ثورة فبراير، فعوضاً عن أن يثبتوا مع الرجل ويدافعوا عن نظامه، هربوا لتونس ومصر ونيجيريا وموريتانيا وفرنسا وقطر والإمارات، وتركوه يقاتل لوحده مصدقاً أن معه الملايين.
أما المتباكون على الملكية “الشرعية”، فإن معظمهم لم يعاصروها ولم يشهدوا يوماً واحداً من أيامها، كما أنهم لا يقلون سذاجةً عن أنصار القذافي في فهمهم للحل، إذ يكفي عندهم عودة الأمير من منفاه في بريطانيا ليشق طريق الصعاب أمام الليبيين في غمضة عين، او يمكن أن يكونوا قد نسو أن إسقاطهم للملكية كان سببه قناعة الليبيين وقتها بعمالتها للغرب، وتخاذلها عن نُصرة قضاياهم القومية والإقليمية، حتى أنهم فرّطوا فيها بسهولة شديدة، لصالح حركة الضباط الوحدويين .
لقد انقلب الشعب الليبي على شكلين من أشكال الحكم، وجلس ليندب حظه بعد كل مرة، فقد انقلب على الحكم الإيطالي مطالباً بالاستقلال دون أن يستفيد من نواة الدولة والأحزاب والمؤسسات التي تركها له، لينقلب بعدها على الملكية التي حققت له الاستقلال، رامياً إياها بالعمالة والتفريط في الشريعة، ليعود في نقض على نظام الجماهيرية الهلامي الذي أشاع فوضى إدارية ومالية عارمة في البلاد، وفي انتفاضته عليه كشف عن شخصية خاملة وفاسدة الضمير (إلا ما ندر)، فهو قد انتخب قريبه غير المؤهل لكي يدبر لابنه وظيفةً في الخارجية أو في مكاتب وزارة الثقافة في مدن لا توجد فيها مكتبات حتى في المساجد، أو سارع لمنح بركاته لتيارات سياسية مشبوهة، وحين طالب بمحاسبة المسئولين، نسي أنه يتقاضى رواتب عن ثلاث وظائف دون أن يداوم في أيّ منها،أو داوم على لعن فبراير ليلاً نهاراً لكنه استعمل علاقاته للحصول على مِنح ومزايا مالية منها، لينفقها على شاطئ النيل أو شقق تونس و تركيا.
إن الليبيين المتمسكين بالتاريخ قد جاءوا جميعهم من الأمس بحلوه ومُرِّه، وماضيهم قد ترك فيهم ندبات عميقة جداً إلى حد بعيد، لن يتحرروا من الماضي بقرارٍ عقلي صرف في طرفة عين، بل بعمل مدني وسياسي واعٍ وعلى المدى الطويل أيضاً، لكن النقطة المهمة هنا الآن هي كيف ستكون ثمار هذه الشروخ على مر تاريخ الدولة الليبية و هي التي رسمت بوضوح الصورة الحالية لواقع البلاد، و هل سيمكن للمواطن يختار وطنه هذه المرة و ينسلخ من فكره القبلي العنصري المبني على مصلحة قبيلته قبل كل شيء؟