حدود «داعش» وحدود أميركا
مصطفى زين
القوات الأميركية «ستبقى في العراق بعد داعش، وأمامها مهمتان: حماية الإنجازات الكردية، والاحتفاظ بالنفوذ المتحقق فيه وفي أجزاء من سورية للحيلولة دون التنسيق بين البلدين وقطع علاقتهما بإيران».
بهذه العبارات القليلة الواضحة لخص وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس استراتيجية الولايات المتحدة في العراق وبلاد الشام. الجنرال لم يقل جديداً عن استراتيجية واشنطن في المنطقة فهي ذاتها منذ ورثتها عن الإمبراطورية البريطانية بعد غياب الشمس عن ممتلكاتها في آسيا وأفريقيا نهاية خمسينات القرن الماضي. من أجل هذا الهدف خيضت حروب كثيرة، ونشأت أحلاف، وأقيمت «صداقات» في المنطقة تحت عناوين كثيرة، تتقدمها شعارات الحرية والاستقلال والديموقراطية، في مواجهة المد القومي العربي أيام عبد الناصر والبعث. وحوصرت سورية والعراق بحلف يمتد من باكستان مروراً بإيران وصولاً إلى تركيا، من دون أن ننسى إسرائيل التي لم تكن عضواً رسمياً في الحلف لكنها كانت أكثر المستفيدين منه.
لم يعمر حلف بغداد طويلاً، لكن أهدافه لم تتغير حتى الآن. المتغير الوحيد رسم بالدم وبالصراع الطائفي والمذهبي الذي حل مكان الأيديولوجيا القومية وأصبح الأداة الفعالة في الحروب الأهلية، تستغله الدول الاستعمارية السابقة والحالية في تنفيذ استراتيجيتها، وقد نجحت إلى حدود كبيرة في العراق وسورية واليمن وليبيا. وتخوض هذا الصراع دول إقليمية لا تقل طموحاتها عن الطموحات الأميركية، ويشكل التقاء مصالح الطرفين فرصة ثمينة للولايات المتحدة لتفرض برنامجها على الحلفاء الذين يعتقدون أن في استطاعتهم تحقيق ما يريدون، متناسين أن المصالح قد تتعارض في بعض الأحيان، خصوصاً عندما تكون اللعبة كبيرة في حجم تغيير الخرائط في كل الشرق الأوسط، ومتوهمين، مثل حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا، أن الأيديولوجيا الإسلاموية تستطيع مواجهة الخطر المقيم في عقر دارهم، فها هي أنقرة تقع في «الفخ الكردي» الذي نصبته للعراق، وها هم الإرهابيون الذين صدرتهم إلى سورية يعودون إلى الأناضول وما بعده. وتشكل هزيمتهم في نينوى والرقة معضلة حقيقية لمشغليهم السابقين، إذ بات على الجيش الأميركي إقفال الحدود السورية- العراقية التي ألغاها «داعش» عام 2014 لمنع التواصل بين الدولتين المتحالفتين مع إيران، ومنع مسلحي «الحشد الشعبي» الذي تدعمه من السيطرة على الحدود وتكريس نفوذ طهران في هذه المنطقة. نفوذ يتيح لها التواصل مع دمشق وبيروت وتغيير المعادلات.
تعتقد الولايات المتحدة أنها، بعد عودتها إلى احتلال العراق، ومساعدة الحكومة في تأهيل الجيش والانخراط المباشر في محاربة «داعش»، قد أصبحت في موقع يسمح لها بفرض سياساتها على بغداد من خلال المساعدات. توصي «مجموعة عمل مستقبل العراق» (تضم عشرات الإستراتيجيين الأميركيين والعراقيين، برئاسة السفير السابق ريان كروكر) واشنطن بدعم الاقتصاد العراقي ومساعدة رئيس الوزراء في مواجهة المتطرفين، وإحياء اتفاق «الإطار الإستراتيجي» الذي ينص على التعاون بين البلدين في مختلف المجالات، والتوسط بين بغداد وأربيل لتسوية الخلافات المتفاقمة بينهما، لأن أي نزاع عسكري سيجر إليه إيران وتركيا ويخلق أزمات جديدة تستفيد منها طهران.
لم يخطط الحلفاء لما بعد غزو العراق، معتقدين أن قواهم العسكرية وحدها كفيلة بفرض سياساتهم، وتحقيق أهدافهم الإستراتيجية، فوقعوا بآلاف الأخطاء، باعتراف وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس، من هذه الأخطاء تسليم الحكم لحلفاء إيران والأكراد فيما كان هدفهم المعلن عزل طهران ودمشق وإقامة حكم موال لهم في بغداد، وها هم الآن يخططون لما بعد «داعش» الذي سهل عودتهم إلى بلاد الرافدين للقضاء على النفوذ الإيراني في المنطقة، لكنهم لم يأخذوا في الاعتبار مصالح حلفائهم، خصوصاً تركيا التي لا تستطيع تحمل مساعدتهم الأكراد الذين يهددون وحدتها، فضلاً عن وحدة العراق وسورية، فيما البيت الأبيض مصرّ على دعمهم للمحافظة على مكاسبهم، كما قال الجنرال ماتيس، ومثلما تنص توصيات كروكر.
آلاف «الأخطاء التكتيكية»، خلال احتلال العراق، أسفرت عن خلل في الإستراتيجيا وأشعلت حروباً طائفية. ومئات «الأخطاء» الآن، خصوصاً في عهد ترامب، ستؤدي إلى المزيد من الفوضى. والدليل دخول روسيا المعترك، إلى جانب إيران، وبدء التفاوض معها على مناطق النفوذ، وهذه وصفة جديدة لمزيد من الحروب الأهلية، حتى لو نجحت أميركا في إقفال الحدود التي فتحها «داعش».
……………………
صحيفة الحياة