حتى لا تخطئ بغداد في معالجة أزمة كردستان
عثمان ميرغني
لا يحتاج المرء إلى الخوض في كثير من التفاصيل أو الشرح لكي يخلص إلى أن الأكراد خسروا كثيراً من رهان الاستفتاء على الاستقلال. لكن هذه الخسارة لا تعني أن العراق ربح معركة المحافَظة على وحدته، أو أن الحكومة المركزية يجب أن تطمئن إلى أنها من خلال الإجراءات العسكرية والسياسية والاقتصادية حسمت التحدي الذي واجهته مع إقليم كردستان بعد الاستفتاء؛ فمعركة الحفاظ على وحدة العراق أبعد ما تكون قد رُبِحت في ظل الأوضاع القائمة، وواهم من يعتقد أن الأمور ستستقرّ من دون إيجاد صيغة للتعايش بين كل مكونات الشعب العراقي، بعيداً عن حسابات الهيمنة الطائفية، أو التجاذبات الإقليمية.
المشكلة ليست مشكلة الأكراد وحدهم، لأن السنّة أيضاً يتململون ويشكون من التهميش ومن نمو الميليشيات الشيعية ومن النفوذ الإيراني الطاغي الذي يجعل أطرافاً شيعية تتطرف في مواقفها، وتعتقد أنها يمكن أن تفرض إرادتها على الآخرين، وأن تتجاهل الأصوات العاقلة التي تقول إن الأمور وصلت إلى ما وصلت إليه لأن العراق فشل في تحقيق هوية قائمة على المواطنة، وعلى المساواة في الحقوق، وعلى حفظ حقوق الأقليات، وإشعارها بأنها جزء من وطن لا يميز بين الناس بناء على انتماءاتهم الجهوية أو الطائفية أو الإثنية، ولا يكون القمع فيه الوسيلةَ الوحيدةَ لبسط السلطة على الآخرين ولمصادرة حقوقهم.
المخاوف الكامنة هي التي جعلت نائب رئيس الجمهورية العراقي أسامة النجيفي، الذي زار واشنطن، هذا الأسبوع، يطالب الإدارة الأميركية بتسليح سُنة العراق «لمواجهة النفوذ الإيراني». ذلك أن السُنّة، حتى الذين يتولون مواقع في الحكومة الاتحادية، لا يشعرون بالاطمئنان، في ظل تزايد نفوذ الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، ويتخوفون من استنساخ تجربة لبنان في العراق.
هذه المخاوف ليست مقتصرة على السنّة وحدهم، لأن هناك من بين الشيعة من يرفض تغليب الطائفية، ويحذر من نمو قوة الميليشيات، ومن تزايد النفوذ الإيراني في الساحة العراقية.
في هذا الإطار يمكن الإشارة إلى الرواية التي جرى تداولها في خضم أزمة استفتاء كردستان، وملخصها أن قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني حذر القيادات الكردية العراقية التي التقاها من مغبة الاستمرار في سكة الاستفتاء أو التفكير في الاستقلال بالإقليم قائلاً: «لو استمرّ عنادكم وإصراركم على موقفكم، فسوف نجعلكم تعودون إلى الجبال».
هذه الرواية تناقلها أيضاً الأكراد للإشارة إلى ما واجهوه خلال وبعد الاستفتاء، وللتدليل على الدور الإيراني في إحباط حلم الأكراد.
بغض النظر عن دقة هذه الرواية، فإن الأمر الثابت أن إيران وجهت تحذيرات شديدة للقيادات الكردية العراقية، مثلما فعلت تركيا التي توعّد رئيسها رجب طيب إردوغان علناً بأن الاستفتاء سيكون له ثمن باهظ، ولن يسمح لسيناريو الانفصال بأن يحدث. وبالطبع لم تكن تلك التحذيرات الوحيدة التي تلقاها الأكراد الذين سمعوا أيضاً مطالبات بتأجيل موضوع الاستفتاء من أميركا ومن بريطانيا وفرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي وأطراف أخرى. قيادة كردستان تجاهلت كل تلك التحذيرات والمطالبات، وأخطأت في حساباتها وفي قراءاتها للأوضاع الداخلية والإقليمية والدولية، وراهنت على أنها يمكن أن تفرض موضوع الانفصال كأمر واقع باستخدام نتيجة الاستفتاء، حتى لو لم يتحقق الاستقلال بشكل فوري.
أسوأ ما يمكن أن يحدث اليوم هو استمرار الحسابات الخاطئة سواء في بغداد أو في إقليم كردستان. فإذا كان الانفصال لم يتحقق للأكراد بسياسة فرض الأمر الواقع، فإن الوحدة التي تتحدث عنها بغداد لا يمكن أن تتحقق وتعيش بالقوة وبالقهر. قد يبدو من المشهد الراهن أن هناك أطرافاً في بغداد تراهن على إخضاع إقليم كردستان بالضغوط العسكرية والاقتصادية والمالية بالتعاون مع إيران وتركيا، كما أن هناك أطرافاً أخرى تريد تغذية الخلافات بين الأكراد خصوصاً بعد تبادل الاتهامات بين الحزبين الرئيسيين في الإقليم (الحزب الديمقراطي والاتحاد الوطني)، وتحميل رئيس الإقليم (المتنحي) مسعود بارزاني مسؤولية جر الإقليم إلى مغامرة الاستفتاء بكل الخسائر التي ترتبت عنها حتى الآن، فليس سراً أن هناك من يرى أن الضمانة الوحيدة لعدم تكرار سيناريو المطالَبَة بالاستقلال هي شق صفوف الأكراد وتقسيمهم إلى كيانين أو إقليمين تحت إدارتين مختلفتين.
وفي هذا الإطار قد تتزايد الضغوط المالية والاقتصادية لإشعال الغضب الشعبي على قيادة الإقليم، خصوصاً بعدما عجزت عن دفع رواتب الموظفين الذين بدأوا يتظاهرون تحت ضغط احتياجات المعيشة.
المراهنة على سياسة تقسيم الأكراد، أو على سياسة الضغوط العسكرية والاقتصادية، لن تكون حلاً للأزمة مع إقليم كردستان، ولا ضماناً لوحدة العراق. وإذا كان الأكراد قد أخطأوا بإصرارهم على المضي في إجراء الاستفتاء، فإن حكومة حيدر العبادي يجب ألا تخطئ الآن بتجاهلها دعواتِ الحوار الصادرة من قيادات الإقليم. العراق يحتاج إلى هذا الحوار، وإلى حوارات تضم كل مكونات وأطياف شعبه لكي يعالج إرث الغبن والتهميش ولكي يبني دولة المواطنة التي ستكون الضمانة لوحدته.