حاكموا النقيب…
فرج عبدالسلام
الانقلابات على أنظمة الحكم المختلفة ليست وليدة العصر الحديث، وإنما يعود تاريخها منذ نشأة الإنسان وتكوين التجمعات البشرية، وتسليم هذه التجمعات بضرورة وجود سلطة حاكمة تمنحنها تفويضا لتدير شؤونها. ومن ثمّ يبرز أحيانا بعض الأفراد يحرّكهم شعورٌ ما، قد لا يخرج في الغالب عن الجشع، أو الحسَد، أو شهوة السلطة، أو أيّ مبررات ومظالم أخرى يسوقونها لتبرير فعلتهم، بالانقلاب على النظام الحاكم، ومن هنا تبدأ فصول دراما مأساوية تنتهي في الغالب، وبعد حينٍ يقصر أو يطول ، إلى مأساةٍ تحيق بالإنقلابيين، وبمن انقلبوا عليهم، وبعموم المجتمع الذي حدث فيه ذلك التغيّر المفاجئ، وغير الشرعي في نظام الحكم.
ليس من المفاجئ هذه الأيام أن تقوم سلطات الثورة الشعبية التي أطاحت بنظام البشير الانقلابي في السودان ببدء إجراءات محاكمة تلك الثلة من العسكر التي انقلبت على النظام القائم عام 1989. فبعد ثلاثين عاما من الحكم الاستبدادي، الذي اتّكأ على منظومة الإسلام السياسي الفاسدة، فعاث خلالها في البلاد فسادا وتقتيلا، فأفقرها، ودفعها إلى التقسيم، وغير ذلك من سوء التدبير الذي نراه الآن. سيتطلبُ الأمرُ الكثير من الوقت والجهد والتضحيات للعودة بالبلاد إلى طريق التنمية والاستقرار، والعيش الكريم.
إن كان ما حدث في السودان أمرٌ سيئ، فكل الشواهد تشيرُ إلى أنّ ما حدث في الجارة الشمالية الشرقية قبل انقلاب البشير بعشرين عاما، أمرٌ بالغُ السوء بكل المقاييس المعروفة. فانقلاب النقيب القذافي وثلّتهُ حدثَ في توقيتٍ مفصلي، كانت البلادُ فيه تسير فيه بخطىً حثيثةٍ نحو الاستقرار والتنمية والازدهار والديموقراطية أيضا. وهي التي خرجت قبل أقلّ من عقدين من الانقلاب، من استعمار بغيض، وجهل عظيم، وفقر مدقع، بحيث تبوّأت المركز الأول في قائمة البلدان الأكثر فقرا. لكن همّة أبنائها وبناتها ونزاهة ووطنية أشخاصٍ مخلصين ونزيهين، وضعتها في طريق تنميةٍ واستقرارٍ متصاعدين، إلى أن جاء الانقلاب المشؤوم الذي عاث في البلاد تدميرا وفسادا فكريّا وماديّا، وخلخل بنية المجتمع الليبي الناشئ بمحاولة تطبيق شعاراتٍ (هبلة) هبطت بهذه البلاد الآمنة والغنية بالثروات إلى أقل المستويات على وجه الأرض من حيث النظام والخدمات الضرورية، وحسن التدبير، فبدّد ثرواتها الهائلة، والأهم من كل ذلك الخلخلة الهائلة التي أحدثها في بنية المجتمع الليبي، وحالة الوئام التي كانت سائدة فيه، فتحوّل أغلب الناس إلى وحوش مقيتة لا يتوانون عن ممارسة الفسادِ والإفساد، وعن قتل أبناء وطنهم تحت أي مبررات، ولا في تخريب مقدراتهم بأيديهم، بدليل هذه الحرب الأهلية العبثية القائمة الآن، والتي لا يعرف أحد مآلاتها الكارثية، غير التجزئة وتقسيم المقسّم.
قائمةُ الخرابِ التي أحدثها انقلاب عام 69 تطول، وتُدمي القلوب بما تتضمنه من سوءٍ وبشاعات بالإمكان حصرها وإحصاؤها. ومع ذلك ما يزال أغلب شهود الإثبات في تلك الأربعينية المظلمة حاضرين. وبالرغم من حجة البعض بأن النظام والأمان الذي كان في عهد انقلاب سبتمبر أفضلَ بمراحل مما عليه الآن، في ظل هذه الفوضى السائدة. إلاّ أن هذا لا يمنع من الذهاب إلى السبب الفعليّ في ما يجري الآن. بالإمكان حصر هذا الضرر الفادح الذي وقع على ليبيا والليبيين، ولم يسلم منه حتى العالم الخارجي… وحتى في ظل انعدام وجود الدولة الفاعلة الآن. لن تتم هذه الخطوة الضرورية إلا ببدء إجراءاتٍ رسميّة، لمحاكمةِ انقلابيي سبتمبر 69 لخروجهم على الشرعية القائمة، ولما ألحقوه بالبلاد من خراب. تصحيحُ صفحاتِ التاريخ ممّا تحويه من مغالطات واجبٌ لا بد من القيام به. كذلك فقد يحدّ مثل هذا الإجراء من تطلعاتِ الانقلابيّين المحتملين (وما أكثرهم) للقيام بفعل مقيتٍ مماثل، الآن أو في المستقبل.