جعجعة وتخوين
عبده وازن
لا يحتاج اللبنانيون، جميع اللبنانيين، إلى من يذكرهم أنّ إسرائيل هي عدوهم. ولا يحتاجون أيضاً إلى من يلقي عليهم خطباً و «عظات» أو يلقنهم دروساً في الوطنية والوفاء والاستقامة. حتى الأطراف الذين «تعاملوا» مع إسرائيل سابقاً باتوا على وعي تام أن إسرائيل استغلتهم ووظفت «خوفهم» الطائفي وأوهامهم لمصالحها المفضوحة وأطماعها، ثم تخلت عنهم في أوج ضعفهم.
لا يستطيع «فرسان» مناهضة التطبيع مع إسرائيل أن يفرضوا أنفسهم أوصياء على المواطنين فيقررون ما عليهم أن يقاطعوا أو يشاهدوا أو يقرأوا أو يشتروا… جميع اللبنانيين يدركون ما تعني مقاطعة العدو وكيف عليهم أن يقاطعوه، سياسياً وثقافياً وأيديولوجياً… وبعضهم يرتأي طريقة تختلف عن طرق الآخرين. كل الأمور باتت معلومة ومفضوحة في زمن الإعلام المفتوح وبات «الجاهلون» في هذا الميدان ندرة نادرة.
لم يفهم أحد ما الذي حدا بجماعة مناهضة التطبيع إلى إحداث هذه الضجة أو هذه «الجعجعة» حول فيلم «ذا بوست» للمخرج الأميركي الشهير ستيفان سبيلبرغ داعين إلى منع عرضه في الصالات وفشلوا على رغم الحملة الكبيرة التي قاموا بها وعلى رأسهم حزب الله في شخص أمينه العام السيد حسن نصرالله الذي أخذ عليه بعضهم عدم معرفته اسم المخرج الأميركي كاملاً فسماه خلال خطابه «مدري شو». هل كان في حسبان «فرسان» مناهضة التطبيع الذين ينتمون بمعظمهم إلى جبهة «الصمود والتصدي» والمقاومة التي فقدت بوصلتها العسكرية وضلت طريقها إلى فلسطين، أن «جعجعتهم» الوطنية والشعاراتية ستؤدي إلى رواج الفيلم شعبياً وإلى تحقيقه المزيد من الإيرادات. فهذا المخرج يملك جمهوراً كبيراً في لبنان كما في العالم العربي والعالم وأفلامه كلها عرضت في لبنان حتى بعد حرب تموز2006. وأدت الدعوة إلى منع الفيلم أيضاً إلى انقسام في إعلام الأطراف المتحالفين سياسياً كاد يؤثر سلباً في هذا التحالف. فإعلام التيار الوطني الحر، حليف حزب الله، وصف الدعوة إلى منع الفيلم بـ «الجريمة في حق الحرية» وحمل بشدة على الداعين إلى المقاطعة وعلى أسلوبهم الذي لم تنجم عنه بحسبه، سوى هزائم متتالية. وخلق هذا السجال حالاً من البلبلة الإعلامية والسياسية خصوصاً بعد تصريح رئيس التيار، وزير الخارجية جبران باسيل الذي قال فيه إن لا خلاف عقائدياً مع إسرائيل، وبدا كأنه يمهد للمؤتمرات التي يعقدها أو يشارك فيها عالمياً ممثلاً لبنان، في دول تدعم إسرائيل علناً ودعمها يفوق حتماً دعم سبيلبرغ. ومضى بعض «المماحكين» الساخرين في القول: علينا أن نقاطع أميركا حليفة إسرائيل ونغلق سفارتها ونرفض دعمها اللوجستي للجيش اللبناني، وكذلك كل الدول الأخرى التي تعترف بإسرائيل و «تطبع» معها. وقد تكون روسيا البوتينية أول دولة تجب مقاطعتها فهي بينما تقصف المدن السورية وتدمرها مؤازرة النظام البعثي وحلفاءه ومنهم حزب الله، تنسّق تنسيقاً كاملاً، عسكرياً واستخباراتياً مع العدو الإسرائيلي، وتعاونه في تسديد ضرباته ضد جبهة الصمود والتصدي.
ولم يفت «فرسان» مقاومة التطبيع أن يُحيوا من جديد حملتهم ضد المخرج اللبناني زياد الدويري بعدما وصل فيلمه «الإهانة» أو «القضية 23» إلى القائمة النهائية في مسابقة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي، وراحوا يكيلون له التهم التي لم يضجروا من كيلها وفي مقدمها التطبيع مع إسرائيل. وأسقط هؤلاء عن الفيلم خصائصه الإخراجية وجمالياته وبراعة المخرج في إدراة الممثلين وخلق أجواء سينمائية بديعة. وبرروا، ويا للخجل، وصوله إلى الأوسكار بموقف صاحبه التطبيعي، علماً أن زياد أعلن مراراً وعبر الشاشات وفي الصحافة، أن إسرائيل عدو لبنان والعرب. وهو اخطأ حتماً في تصوير فيلمه «الصدمة» في تل أبيب وفي تعاونه مع ممثلين إسرائيليين التقوا ممثلين فلسطينيين أمام كاميراه. لكنّ الدويري كان، قبل سفره إلى إسرائيل بجوازه الفرنسي، أبلغ السلطات اللبنانية بمشروعه لنيل الموافقة منها ولم يلق جواباً فذهب إلى تل أبيب علناً لا سراً ولا في جنح الظلام. كيف يتهم زياد الدويري بـ «التعامل» وهو يصور فيلماً مأخوذاً أصلاً عن رواية للكاتب الجزائري ياسمينة خضرا؟ لماذا لم يتهم الكاتب أيضاً، بل لماذا لم يتهم الممثلون الفلسطينيون الذين شاركوا في فيلمه؟
جعجعة وضجيج وقرقعة وصليل سيوف ومعارك دونكيشوتية وحملات تخوين عشوائية… والضحايا دوماً هم الأسهل والأقرب، أما الذين يؤدون خدمات جلّى لإسرائيل، بالسر والخفية، مداورة ومناورة، فهم أحرار وأبطال. من يشاهد فيلماً إسرائيلياً أو يقرأ كتاباً إسرائيلياً أو يسمع أغنية إسرائيلية… لا يمكن وضعه في خانة التطبيع أو اتهامه بالتعامل. يجب أن نطلع على ثقافة عدونا ونكتشف فكره وندرك طبيعته العدائية. المقاومة لا يمكن حصرها عسكرياً أو دينياً أو مذهبياً، المقاومة يجب أن تكون أيضاً ثقافية وعلمية وعلمانية، خصوصاً علمانية.