جائزة نوبل والتنظير السلوكي
نوح سميث
حسبما أعتقد، وكما تعلمون جميعاً الآن، فقد ذهبت جائزة نوبل للاقتصاد لهذا العام إلى ريتشارد ثالر. ويتساءل الجميع الآن ما إذا كان يحق لنوبل «الحقيقي» أن يستريح، إذ إنه تم الإعلان عن الجائزة على حساب نوبل الرسمي على موقع «تويتر».
ولقد نال البروفسور ثالر الجائزة لأبحاثه في علم الاقتصاد السلوكي، على الرغم من أنه أبعد ما يكون تاريخياً عن أول علماء السلوكيات الذين نالوا هذه الجائزة الذهبية الكبيرة من السويد –أمثال هيربرت سيمون، ودانيال كانيمان، وروبرت شيلر. بيد أن أعمال البروفسور ثالر هي أوسع نطاقاً وأعمق تأثيراً من أيٍّ من هؤلاء الرواد الأوائل. واتساع مجال أبحاث ثالر هو ما يمهد الطريق إلى حيث تتجه علوم الاقتصاد تحديداً.
وعلى نحو متساهل، فإن الأبحاث السابقة في علوم الاقتصاد كانت تدور حول البحث عن النظريات الكبيرة الموحدة. وفي أول الأمر، كانت فكرة العرض والطلب هي الحلقة التي تربط علوم الاقتصاد بعضها ببعض. وفي وقت لاحق، استبدل بهذا الطرح النمذجة الواضحة لعملية صنع القرار الاقتصادي باعتبارها النموذج الأمثل للتفكير الاقتصادي الرشيد. ومن خلال توقع أي شيء، من أسعار الطماطم في ولاية وايومينغ الأميركية إلى معدلات الادخار المسجلة في بنغلاديش، يمكن للمرء افتراض أن الناس يهتمون بالخدمات، والشركات تهتم بالأرباح، ومن ثم صياغة المعادلة الرياضية المثلى التي تأتيك بالإجابة على الفور. وذاعت شعبية هذه الطريقة وشهرتها –والتي تسمى أحياناً المنهج الكلاسيكي الجديد– حتى إن علماء الاقتصاد شرعوا في تطبيقها على علوم الاجتماع، والقانون، والسياسة.
ويعتاد الناس السخرية –المبررة– من العوامل غير الواقعية والمفرطة في العقلانية لهذه النماذج الاقتصادية المطروحة. ونال الرواد من علماء السلوكيات، أمثال كانيمان، قدراً من المصداقية لأنهم حاولوا سبر غور النسخة المفرطة في المثالية للإنسان العقلاني من الناحية الاقتصادية. ولكن لا تزال هناك آمال منعقدة بإرساء أسس حقيقية للنظرية العامة للسلوك الاقتصادي. ولقد حاول البروفسور كانيمان استبدال نظرية التوقعات بالمعيار العقلاني الأمثل. وعلماء السلوكيات أمثال مات رابين كانوا يأملون في إمكانية طرح العقلانية البشرية باعتبارها انحرافات صغيرة منبثقة عن نظرية واحدة وموحدة.
ولكنني أرى أن أبحاث البروفسور ثالر مختلفة من الناحية النوعية. وفي حين أن العديد من علماء السلوكيات يرغبون في استبدال أو «تقريظ» النظرية المعيارية، شرع البروفسور ثالر في تحطيمها تماماً يمنة ويسرة. ولقد كشف العوار بعد العوار في هذه النظرية. وبدلاً من أن يحاول صياغة نظرية جديدة من نقطة الصفر لتفسير شذوذيات النظرية القائمة، فلقد اقترض، أو لعله أوجد، نظريات قائمة على المواقف، مثل المحاسبة العقلية، وتأثير الوقف، وهلم جرا. وفي بعض الأحيان كانت النظرية تعتبر بسيطة للغاية. وفي أحيان أخرى، مثالاً بالبروفسور شيلر، عمد فقط إلى مجرد توثيق موطن الخطأ الذي وقعت فيه النظرية المعيارية، وترك أمر التنظير برمته لباحثين آخرين.
ويقول نقاد النظرية السلوكية إن هذا عيب من العيوب. وهم يأسفون للغاية على استبدال العديد من النظريات المصغرة بالنظرية الموحدة. وإن كان لديك تفسير مختلف لكل موقف من المواقف، فإن نقاد المنهج السلوكي يقولون: ما الذي سوف يحول بينك وبين تلاوة نفس القصة على مختلف المواقف؟ ويميل أولئك النقاد إلى توصيف أبحاث البروفسور ثالر بأنها من قبيل قوى التحطيم التنظيرية.
بيد أن البروفسور ثالر ليس مثيراً للزوابع النظرية أو قاذفاً للقنابل العلمية –فإن منهجه المختار أبعد ما يكون عن ذلك تماماً. وإنني أعتقد أنه يحاول إيجاد نموذج جديد ومختلف– أي النموذج الذي قلما يستند إلى النظرية الكبيرة الموحدة للسلوك البشري.
ليس هناك من سبب مقنع لأن يكون علم الاقتصاد أشبه ما يكون بعلم الفيزياء. لأن علماء الفيزياء دائماً ما يحاولون توحيد أطرهم النظرية، لإثبات أن ما يبدو للعامة أن ما يعتقدونه من القوى والمبادئ المختلفة هي في واقع الأمر «الشيء نفسه». غير أن السلوك البشري ليس ضرورياً أن يتخذ نفس المنحى والسبيل، فإن الطريقة التي يقرر بها المرء أي منتج من «صلصة الصويا» التي يرغب في شرائه، قد تكون بكل بساطة مختلفة عن الطريقة التي يقرر بها نفس الشخص شراء منتج من منتجات شركة «أبل». وتتمحور أبحاث البروفسور ثالر حول إرغام علماء الاقتصاد على الاعتراف بهذا الاحتمال.
كيف يمكننا معرفة استخدام النظرية الصحيحة في الموقف الصحيح؟ إنها البيانات. إذ تتسق الثورة السلوكية جنباً إلى جنب مع الثورة التجريبية والتي باتت تجتاح الآن المهنة الاقتصادية. وعلى مدى العقدين الماضيين، ظل علماء الاقتصاد يقللون من الجهود الموجهة إلى التنظير في مقابل زيادة الجهود المكرسة للقياس.
ودعُونا نأمل أن هذه ليست مجرد بدعة علمية محدثة، ولكنها نموذج جذري وجديد في هذا المجال. وكان المنهج القديم للاختيار بين مختلف التفسيرات يبدأ بافتراض النظرية الكبيرة الموحدة، ثم إيجاد أدنى الانحرافات الممكنة والمتفرعة عنها والتي تفسر الظاهرة محل الدراسة. لكن المنهج الجديد ينبغي أن يجمع، وهو كذلك بالفعل، عدداً من التفسيرات المعقولة ويفسح المجال للبيانات كي تحدد أياً منها ينطبق على الظاهرة. ثم بعد أن يحدد علماء الاقتصاد النظريات التي تنسحب على كل نطاق صغير ومحدود، يمكنهم حينئذ استكشاف مجالات أخرى من التي يمكن أن تنطبق عليها النظرية ذاتها. وعلى نحو بطيء، يتسع نطاق كل نظرية ناجحة ومثبتة، وإذا ما حدث وتصادمت نظريتان منهما بعضهما ببعض –بمعنى، المرحلة التي تبرز فيها النتائج المتكافئة– يمكن لعلماء الاقتصاد العمل على توحيد هاتين النظريتين.
وهذا هو بالأساس المنهج الذي يبحث علماء الطبيعة من خلاله في شؤون العالم. بدلاً من مجرد الوثب إلى الاستنتاجات التي تبدو خالصة ومتأنقة مثل الفيزياء، ينبغي على علماء الاقتصاد اتباع -عن كثب- الأساليب التي يطبقها علماء الفيزياء في واقع الأمر.
ولذلك، فإن النظرية السلوكية لا تتعلق بالأساس بعلم النفس، بل تتعلق بالتواضع. وفي بعض الأحيان يمكن تفسير الأمور التي يقوم بها الناس من زاوية التحيزات النفسية، وأحياناً عن طريق النحو الأمثل من التفكير العقلاني، وأحياناً أخرى عن طريق أمور مختلفة بالكلية. ويعقد البروفسور ثالر العزم على جعل علم الاقتصاد يدور حول ما يصلح، بدلاً مما نعتقد أنه ينبغي أن يصلح. وعلى هذا النحو، فإنه لديه الإمكانية والمقدرة على الوصول لما هو أبعد من الموضوعات المحددة التي قضى البروفسور ثالر جلّ حياته المهنية يبحث ويحقق فيها.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»
…………………………..
الشرق الأوسط