ثومُ الأصفر وحلقومِه
فرج عبدالسلام
(جابولي ثوم.. كليتا نحسابا حلقوم)
…………………………
يظل محمد الأصفر، هذا الفتى البنغازي العجيب، يتحفُ المشهد الأدبي الليبي بإبداعاته المميَّزة وسردِه المختلف. ومثلما تفرّد “الصادق النيهوم” في تأسيس مدرسةٍ وإحداث نقلةٍ مُهمّة في المشهد الثقافي الليبي في الستينيات، ليثبتَ فيما بعد تميزه كصاحب فكرٍ مختلف حتي في المشهد العربي الأوسع انتشارا حيث استغلّ ثقافته الواسعة وأسلوبه الفريد في تناول المواضيع المهمة والجادة المتعلقة بحياة عامة الناس والتعبير عنها بطابعٍ أقرب للسخرية اللاذعة. كذلك يفعلُ محمد الأصفر، بأعماله المتعددة التي يطرحُ فيها بأسلوبٍ فريد وغريبٍ أحيانا عن السائد والمألوف في الكتابة الليبية، ليدخل بعمقٍ روائيّ متميز في تطورات المجتمع الليبي تفاعلاته. ولهذا يرى كثيرون أنّ محمد الأصفر يحتلّ عن جدارة موقعا ثابتا في مسيرة الأدب الليبي لالتصاقِه الشديد بقضاياه وتحوّلاته. فمثلا في روايته “شرمولة” التي استغرب كثيرون عنوانها وربطوها للوهلة الأولى بالأكلة الشعبية الليبية المعروفة، أبدعَ تماما في وصفه لحياة المواطن الليبي في تلك الحقبة، وقرنها بالشرمولة التي من أبرزِ خصائصِها تعرّضها للخلط والهرس الشديد لتصبح جاهزة للأكل. كذلك فمشهدُ حرق الآلات الموسيقية الغربية في “علبة السعادة” يوضح ما يتمتّع به الأصفر من حرفيّة وتميّز في اختيار الموضوع وتوظيفه فنّيا: (لم يكترث العودُ لصراخ الغيتار، ولا الطبل والبندير والدف لدق الدرامز وشكشكة نحاسياته المتألمة وتخبطها، ولا القانون لنشيج الكمان الحزين، ولا للعناتِ البوق والساكسفون اللذين وَصفا المحرقة بالفعل النازي الفاشي الهتلري الموسوليني. كل الآلات الشرقية التي تراقبُ مشهد الحرق للأسف عملتْ نيسا (تجاهلت الأمر برمّته) ولم تهتم بمأساة ومعاناة بني نغمها، لقد ظلّت مشغولة عنها بتدريبٍ على أغنية سابقة لوردة الجزائرية، تقول: «إن كان الغلاء ينزاد.. نزيدوك يا معمر غلا”
في روايته الأخيرة “علبة السعادة” يقتفي محمد الأصفر، النهج نفسه الذي عُرف بتميّزهِ فيه، ويغوص في أدقّ تفاصيل حقبةٍ مُهمة في حياة المجتمع الليبي، مستخدما مَعينَهُ الذي لا ينضب من الحكايات والأمثال والأوصاف الشعبية لسرد ما حدث لليبيين من تحوّلات خطيرة بعد مجيء العسكر إلى الحكم، ومن ثم بروز وتسيّد فئةٍ جديدة من الناس، تتدثر بحماية الدولة العميقة من الثورجيين و (الأنتينات) وهو تعبير ظريف صاغه الليبيون لوصف مُخبري السلطة الذين يحصون على الناس أنفاسهم.
قد يكون من الصعب تقييم رواية سياسية يختلط فيها الواقع بالخيال الواسع للمبدع… وإن اضطُر الأصفر في كتاباته الماضي خلال تلك الحقبة المضطربة إلى اللجوء إلى الاستعارات والانخراط في سردٍ أقرب إلى الكوميديا السوداء، خشية مقصّ الرقيب، أو خوفا من مقصلة السجان. نجدُ في أعماله الأخيرة تحرّرا أكثر في التعبير عن المواقف المختلفة وعن شخوص رواياته، وللتأكيد على أنه ما يزال يحتفظ بالكثير من ندوبِ ذلك الزمن البغيض، لإيصال رؤيتِه إلى القارئ من خلال مواقف عديدة، وشخوص ٍ منهم “مبروك” مدرس الموسيقى الذي أرسِل إلى القتال في تشاد ليُقحَم “في حرب لا ناقة له فيها ولا جمل ولا نعامة.” وكذلك عبد الوهاب، صديق مبروك وعاشق الموسيقى البسيط الذي حصل على غيتار كهدية من صديقته الألمانية، لكن غيتارهُ نجا بأعجوبة من محرقة الآلات الموسيقية الشهيرة، وإن قُبض عليه لاحقا بسببه.
هذه المرة، وربما بسبب غربةِ الكاتب في ألمانيا، فهو يجعلُ أحداث روايته تدور في أماكن شتّى مثل طرابلس، وبنغازي، وتشاد، ومالطا، وفي الألمانيتين خلال فترة الثمانينات وبداية التسعينات من القرن الماضي. وفي مقارنة فارقة ومجحفة، جعل الأصفر الرواية تتطرّق إلى التغيرات السياسية والاجتماعية التي شهدتها ليبيا وألمانيا وما صاحبهما من تداعيات. ولم يتوان عن انتقاد الأيديولوجية الفاشية التي أراد النظام الشمولي الذي كان في أوج عنفوانه قد فرضَها بالحديد والنار. فتلك هي الفترة التي كان “الأخ الأكبر” يقول فيها دون أن يرفّ له جفن: أنا الدولةُ والدولةُ أنا. حيث راح الشعب يناضل للتحايل على قسوة الدكتاتورية “بالكرة والبحر والغناء”
“علبة السعادة” هي وثيقة تاريخية ضد الديكتاتورية، لم يجد الروائي لها أفضل من الحالة الليبية كمثال صارخ وحقيقيّ حتى أن من يعايش ذلك الزمن قد يعتقد أن ما يرويه الأصفر هو محض خيال روائي.