ثنائية التدين، والأخلاق
"تديَّن كما شئت، ولكن تمسّك بالأخلاق الإنسانية أوّلا"
فرج عبدالسلام
قد يعتبُ البعضُ على المفكر المغربي التنويري أحمد عصيد، أمازيغيته “الحادة” كما يصفونها، وإن كنتُ أحيّي فيه هذا الموقف الأخلاقي الإنساني المشروع، الذي يجعله يسلكُ نهجا واضحا لا يلين في التعبير عن الطموحات المشروعة لقومهِ الأقربين، والدفاعِ عن قضاياهم، في وسطٍ لا يتوانى فيه الناس عن تهميش الآخرين، وتغلبُ عليه محاولاتُ طمس الهوية المغايرة بطرقٍ شتى، ونكران تطلعاتها الإنسانية البديهية في التمسك بكل ما تمثله الهُوية من أبعاد ثقافية وإنسانية ضمن الإطار العام للمجتمع الحديث. لكن هذه القضية يجب ألّا تصرفَ أنظارنا عمّا يطرحه أحمد عصيد وأمثاله، مهما كانت انتماءاتهم العرقية والأيديولوجية، في مسألة الأزمة المستحكمة التي يمر بها العالم الإسلامي اليوم، وما تمثله من انعكاسات سلبية على المسلمين في العصر الحديث.
اطّلعتُ على العديد من الردود على طروحات أحمد عصيد، في تفسير الكبوة التي يمرّ بها فسطاط الإسلام، ورأيتُ أن أقل ما توصف تلك الردود بالموتورة والمغالِطة، فأغلبها لا يناقش الفكرةَ والطرحَ، وإنما يقدحُ في الرجل من جهة علمانيته وانتمائه العرقي. والتهمةُ الأخيرة إنما تؤكد صدقيّة الانتقادات التي يوجهها أحمد عصيد إلى محيطه الإسلامي، وتؤكدُ كذلك ما يدعو إليه مرارا وتكرارا حول سوء فهم قومِه المسلمين لأسس دينهم، الذي يُفترض أن يحضّ على المساواة بين البشر بغض النظر عن أعراقهم وانتماءاتهم، وأن يكون المعيارُ الوحيدُ لتقييم الناس هو إنسانيتهم وأخلاقهم ضمن إطار الجماعة البشرية.
ملخص أطروحة أحمد عصيد وكثيرين غيره من المفكرين التنويريين، هي الازدواجيةُ الحادة في العقل الإسلامي الذي لم يتمكن من التعريف بالقيم الإنسانية النبيلة في الدين، كما هي في أغلب الديانات، بسبب إعطاء المسلمين الأولوية لما يرتبطُ بالدولة الدينية، وتخليهم عن القيم الإنسانية، وما يشير إليه الباحثُ بالأخلاق، التي يضعها في المقام الأوّل للحياة القويمة وتعامل البشر في هذا العالم. وبالتالي يرى المفكرون في غياب عامل الأخلاق سببا رئيسا في التردي المفجع الذي نعيشه منذ قرون طويلة. فمن ناحية يزداد الحرصُ من قِبل الغالبية على مظاهر التديّن إلى درجة المبالغة، وإحداث الأذى والضرر للمختلفين عنهم. وأنه في الوقت الذي تزداد فيه أعداد المساجد، إلاّ أننا، من ناحية أخرى، نرى انحدارا ملحوظا في أخلاق المسلمين، حيث تشير الدراسات إلى انعدام الأمانة والنزاهة والقيم الإنسانية لديهم بشكل ملحوظ.
لا يستنكفُ أحمد عصيد، عن الدخول في التفاصيل التي تستندُ إليها أطروحته، فيقول مثلا إن دروس التربية الإسلامية تصرّ على ربط الدين الإسلامي بمفهوم السياسة والدولة، وإنها همّشت مسألة القيم والأخلاق، وبالتالي لم تحرص على ترسيخ مبدأ الأخلاق المهم في التعايش الإنساني وإعطائه الاهتمام الذي يستحق، فلا تحوي تلك الدروس سوى العقائد وما يرتبط بها، والإصرارَ على التمييز بين المؤمن والكافر، حيث تدعو أبناء المسلمين إلى حبّ الأول وكره الثاني، وكذلك إصرارها على ربط فعل الخير والعمل الصالح بالذهاب إلى الجنة ونيل مباهجها، وليس لأن فعل الخير والتزام الأخلاق مهمّ لذات الإنسان، ومهمٌّ لسلام وتطور المجتمعات الإنسانية. بالإضافة إلى حثّ مناهج التربية الإسلامية على الانتماء إلى جماعة دينية معيّنة، ما ينتجُ عنه تعطيلُ العقل، وجعله أسيرا لفكر هذه الجماعات ومنهجها، فيرهنُ الإنسانُ المسلم عقله ومصيره لها، ونعرفُ جميعا ما ينتج عن ذلك من مآسٍ على الفرد والمجتمع.
مثل هذه الدعوات العقلانية والإيجابيةِ التي تهدفُ إلى الرقيّ بعالم المسلمين في عالم اليوم المضطرب، غالبا ما تلقى صدّا وردّا عنيفا من الإسلامويين الذين يجدون فيها دعوة للثورة ضد هيمنتهم الظالمة على عقول الناس، وتقويضا لطروحاتهم البائسة والغريبة، ولمفهومهم الخاطئ لثنائية التديّن والأخلاق، وبالتالي تزعزعُ هذه الدعوة أسس الأفكار الماضوية التي يستندون إليها، والتي أودت بالمسلمين وحضارتهم إلى نفقٍ مظلم طويل يصعبُ الفكاك من أسره، والخروج منه بسلام.