ثلاثون مليون كذبة
فرج عبدالسلام
طرح صديقٌ عل صفحته في العالم الافتراضي فكرة نقاشِ حول ذاكرة الأغاني التي كانت تشكّلُ ذاكرتنا الجمعية وبهجتنا. وذكر المغني “محمد حسن” كمثالٍ وهدف للنقاش معتبرا إياه أحد علاماتِ المجتمع الليبي، وأنّ أغانيه كما قال تتواصلُ مع الروح البدوية في داخلنا وقامت بتنميتها، على اعتبار أنّ هذا أمرٌ إيجابي يُحسب للمغني إياه. لم يغب عني أنّ أغلب المعلقين على الموضوع، بقدر إقرارهم بتسيّد محمد حسن للساحة الفنية الغنائية لعقود، وأشاروا إلى أنّ إبداعه والفرادةَ التى تميّز أسلوبه ارتبطت إلى حد كبير بعلاقة مريبة مع النظام آنذاك ورموزه المرتبطة بالفنون والثقافة، بحيث نال لقب مطرب السلطان بامتياز.. وأعترفُ أنني في مشاركتي في النقاش، لم أستطع الالتزام بالحكم الفني الموضوعي على المغني وعلى الفترة التي تربّع فيها على المشهد الغنائي الليبي، فقد أبديتُ رأيي كمتلقٍ له رأيه في الجانب الطربي كما له آراؤه في المضمون. ومع تسليمي بأن الموضوعية هي “إدراك الأشياء على ما هي عليه دون أن يشوبها أهواء أو مصالح أو تحيزات،” لكن عندما يتعلق الأمر بماضينا وحاضرنا، وربما مستقبلنا ، قد يصعُب التمسك بمقاييس مطلقة للموضوعية.
لا يغيب عن أذهان الكثيرين ما في جملةِ المغني محمد حسن الموسيقية من طرب جميل وما تميّز به صوته من قوة ونقاء، وكذلك ارتباطُ مضمون أغانيه بالمكان وبالتراث واتصالها بذائقتنا الوطنية اتصالا وثيقا، والدليل على ذلك كثرة معجبيه ومريديه. ولكن نحنُ أبناءُ الجيل الذين عاصرنا ليل الاستبداد الطويل، واكتوينا بلهيب ناره في أنفسنا وفي وطننا، لا يغيب عن أذهاننا أبدا ذلك الكم الهائل من تزييف الوعي “المقصود” والتطبيل الدائم للمستبد، الذي قام به محمد حسن وغيره من جوقة المطبلين، طواعيةً وخدمةً لنظامٍ نعاني حتى اللحظة، وسنظلُّ لسنين طوال، بسبب ما اقترف في حق الوطن. وهكذا صار الشعبُ لا يرى المغني المدّاح إلا مطربا للانقلاب ولرأسه وواحدا ممن شيدوا جدار الخديعة الذي يستمرؤه الطغاة ولا يختلف كثيرا عن الشعراء المداحين الذين كانوا جزءا مكملا في بلاط الملوك ومنهم المتنبي. لازلتُ أذكر حديثا فنيا حميميا مع الفنان الراحل الجميل (سلام قدري) في الثمانينيات حول ابتعاده عن الساحة الفنية وإمكانية عودته، وكان ردّه القاطع لي: “لو فعل ذلك، فحتما سيُجبَر بشكلٍ أو بآخر على الغناء بما لا يتفق مع قناعاته، لكنه سيكتفي بما خلفه في الذاكرة الليبية من أغنيات كثيرة يرضى عنها من بينها “لو تؤمريني” و “فتنا النخل..” ومضيفا بروحه السمحة “لن يكتب عني التاريخ أنني قلت (كذا وكذا) في تمجيد شخص بعينه (واستخدَم تعبيرا ليبيّا طريفا غير مبتذل).
محمد حسن وأمثاله موجودون في مجتمعاتنا المتخلفة. يتسللون بما أوتوا من موهبة إلى الذاكرة الجمعية، ولا يستمعون إلى نبض شعوبهم ولا ضير لديهم في نثر لحنٍ هنا أو هناك إرضاءً لذوات متضخمة وسعيا لمنفعة مادية أو معنوية. وأشهر من فعل ذلك عند العرب هو “العندليب الأسمر” الذي لم يجد غضاضة في دغدغة العواطف وتغيّيب وعي الناس بأغان بعيدة تماما عن الواقع حينما يخدع الزعيم في إحدى أغانيه ويقول …اطلب تلائي ثلاثين مليون فدائي! وربما فعلت هذه الخديعة فعلها وأدّت إلى تلك الهزيمة النكراء التي نعرف. أما مسألة بدْونةِ الذاكرة الجمعية الليبية بما يتفق ورؤية الزعيم فهي واضحة في التراث الموسيقي الذي أنتجه محمد حسن وقد شكّل ذلك نمطا متخلّفا صارت فيه الحضارة والمدينية معرّة وتهمة أخذت عنوانا ظالما هو صراع الخيمة والقصر، وربما كان ذلك أيضا أحد أسباب الصراع الأهبل على الساحة الليبية الآن حيث لا أحد يعرف تماما أين يقف الفرقاء الليبيون، وعلى ماذا يختلفون..