تيانانمين الخرطوم
فرج عبدالسلام
ليس من الغريب أن يعلن الناطق الرسمي باسم لجنة التحقيق العسكرية في أحداث فض اعتصام القيادة العامة في الخرطوم، تبرئة الرؤوس الكبيرة التي أعطت الأوامر، ويكتفي بإلقاء اللوم على فاعلين صغارا، لثبوت مسؤوليتهم وأن دخولهم إلى ميدان الاعتصام تم دون تعليمات من الجهات المختصة. وليس من المستبعد أيضا أن يجري تمييع هذه المسألة، وتذهب قضية إزهاق أرواح أكثر من مئة معتصم مسالم إلى ملفات النسيان، فمن يحكمون بالبندقية في جزئنا المتخلف هذا من العالم، قادرون في النهاية، على ليّ الحقائق، وتلفيق التهم في سبيل استمرار استبدادهم والحفاظ على مصالحهم.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل من قبيل المصادفة أن يتزامن تماما تاريخ تنفيذ مذبحة فض اعتصام الخرطوم مع الذكرى الثلاثين لمجزرة ميدان تيانانمين سيئة السمعة، التي وقعت وسط العاصمة الصينية بكين في فجر الرابع من يونيو 1989، بحق محتجين سلميين مطالبين بالديمقراطية في البلاد، حين اقتحمت الدباباتُ الصينية “ميدان تيانانمين” قبل بزوغ الفجر، لتسحق المئات، وربما الآلاف من الطلبة والعمال العُزّل، بعد تنظيمهم سلسلةً من النشاطات الاحتجاجية للضغط من أجل مزيد من الديموقراطية والإصلاحات في مجال الحريات في البلاد. ولعل صورة ذلك الطالب الصيني الشجاع الذي وقف أمام عنجهية الدبابة في تعبير عن المقاومة ضد جور الاستبداد الذي يستند في المقام الأول إلى الدبابة والبندقية، أصدق تعبير عن توق الإنسان إلى الحرية، والاستعداد للتضحية في سبيل ذلك.
إذن، توافقُ تنفيذُ المذبحتين في التاريخ نفسه وإن فصلتهما ثلاثون عاما، ربما يحمل دلالات. مع أنه ليس من قبيل المصادفة إطلاقا توافق مدبريهما على فكرة القمع الأهوج، وضرب أي احتجاج على السلطة المهيمنة، مهما كانت درجة سلميته، لأن هذا يؤدي إلى مزيد من المطالبات، وأخطرها الدعوة إلى المشاركة في الحكم، وحق الناس في تقرير مصيرهم، ورسم مستقبلهم.
لكن الجانب الأكثر مأساوية في مذبحة الخرطوم، الذي اختلف عن مذبحة تيانانمين، هو بروز تلك الغريزة الوحشية والمتخلفة، التي تستند إلى تلك الرؤية في قهر الخصوم وإذلالهم عن طريق اغتصاب نسائهم، أو تمزيق ثيابهن وتعريتهن على الملأ إمعانا في الإذلال، حيث اتفقت مصادر متعددة من الداخل والخارج على حدوث مثل هذه الفظاعات. وربما من غير الممكن دحض هذه الادعاءات حيث أن أفراد مليشيات الجنجويد المسؤولين عن مذبحة الخرطوم، هم أنفسهم الذين قاموا بالمذابح والفظاعات نفسها في دارفور، التي أدت في النهاية إلى مطالبات بمثول الدكتاتور السابق أمام محكمة الجنايات الدولية.
نحن في ليبيا الذين خبرنا بعد طول انتظار دام عقودا “ربيعا عربيا” بطعم المرارة، والدم، والتشظي، علقنا الآمال على أن تكون ثورة السودان مختلفة، بعد أن رأينا بداياتها المبشرة، حتى تغطي بعض سوءاتنا. لكن أصحاب الأحذية الثقيلة، والعقول المتحجرة أبوا إلا أن يتصرفوا على سجيتهم ويطلقوا العنان لوحشيتهم. لكن يبقى الأمل في وعي شعب السودان وعراقة تاريخ نضاله السياسي، لتجاوز هذه المحنة وتحقيق طموحاته بإعادة العسكر إلى المعسكرات.