مقالات مختارة

تونس الديمقراطية في مواجهة النافخين في ثقافة «الشيطان النوميدي»

المولدي لحمر

في بداية الستينيات من القرن الماضي، وقبيل انطلاق تجربة التعاضد، جمع بورقيبة في الكاف أعيان القرى وبقايا الجماعات البدوية،

والمعلمين وأساتذة الثانوي والتلاميذ والطلبة، وكل الإطارات الجهوية للدولة التونسية الفتية، وألقى فيهم خطبة عصماء ملخصها ما يلي: معضلة هذه البلاد منذ ماسينيسا إلى اليوم أن الدولة فيها تنشأ وتنهار وفق حلقة تطور دائري من الصعود والنزول وصفها ابن خلدون بإسهاب. مهمتنا التاريخية أن نضع حدا لهذه الحلقة الجهنمية المفرغة، ونقطع مع هذه الثقافة السياسية، ونؤسس لدولة لا تتأسس نتيجة هذه الصراعات الأفقية الانقسامية، دولة لا تنهار.

بورقيبة من الساحل، ولكننا نقرأ اليوم في تدوينة على الفيسبوك نشرها شخص معروف من الساحل يقول فيها لقواعد حزب له وزن ثقيل في الساحة السياسية التونسية، سواء اتفقنا أو اختلفنا معه: «أقول لكم بكل صراحة أنتم لستم من أبناء الجهة المناضلة [الساحل]، أنتم من الدخلاء…» ! ويكتب في تدوينة أخرى: « يوجد الكثير من البشر من عديد ولايات الجمهورية يقطنون ويعملون بجهة الساحل منذ عدة عقود لكنهم يأكلون الغلة ويسبون الملة» !

وفي ذات الوقت تتشكل جماعة تسمي نفسها «عائلة الوسالتية وأصحابنا» أو « عرش الوسالتية» (هناك مجموعات أخرى مشابهة) وتنظم في بداية هذا الشهر «الملتقى الوطني الأول لإحياء ذكرى تشتيت وسلات» في القرن 18، وهناك دعوة كي يجتمع كل من غادر المنطقة واستقر في أي مكان من تراب تونس كي يعود إلى هويته الوسلاتية الأمازيغية !.
من يسعى اليوم إلى الحشد السياسي بشكل أفقي مناطقي عرقي؟ كيف تسللت هذه الثقافة السياسية للعقول بعد كل الجهد الذي بذلته الحركة الوطنية ومؤسسات الجمهورية، ومنها التعليم، لتعوض الانتماء القرابي والإثني والمذهبي المتخيل بالانتماء للفكرة والوطن ؟ هناك اليوم نقد لاذع للمركزية، وهو نقد محق، ولكن من يعمل على إنتاج بديل يتكلم بلسان «الشيطان النوميدي»؟ ثم كيف نفهم صحوة مارد التفتيت والتقسيم الأفقي؟ وكيف نفهم تسلل السياسة لهذا «المخزون» التاريخي، ومحاولة استخدامه للكسب السياسي؟

لقد عرضت مثالين صارخين من الساحل بالذات ومن الداخل لهذه الظاهرة بالقصد. والقصد هو تقريب الوعي بما عرته الثورة من أغلفة تتعلق بما تراكم في أذهان الكثيرين، ممن لا يعترفون بالثورة، بشأن أحقية تونسيين دون غيرهم في أن يكونوا حكاما لتونس، وما كشفت عنه من تراكم في أذهان غير هؤلاء من المحرومين من كل شيء جميل في تونس، بشأن حقهم المغموط في إنتاج الزعماء وتقلد مسؤوليات الحكم.

هناك أسباب تاريخية حاسمة خلقت هذا التفاوت بين الجهات في القدرات والموارد والحقوق، فمكنت جهات دون أخرى، ونخب دون أخرى، من السلطة ومن تأسيس شبكات المصالح القوية، المؤدية إلى المصادر العامة للمنافع لتجلب لها الاستثمار، وتلبست بهذه الشبكات معايير أنثروبولوجية استخدمت الجهة والقرابة والزبونية، لتحتكر القسم الأوفر من الموارد، وتعتبر الآخرين «دخلاء». ولقد أدى ذلك إلى إحساس جهات أخرى بالحرمان و»الحقرة»، وبأن الدولة التونسية تكاد لا تكون دولتهم: في شكواهم يقولون باستمرار: «لماذا نحن محرومين؟ ألسنا تونسيين؟ الم يقاوم أهلنا الاستعمار؟».

هل نكثت الدولة التونسية عهدها في مقاومة «الشيطان النوميدي»؟ في المبدإ لا. لكن سياساتها التنموية واستبدادها السياسي أنتجت ظواهر متناقضة: من ناحية أثبتت الثورة التونسية أنها تنبع من معين قطع مع ثقافة «الشيطان النوميدي»، فلقد حذر الثائرون أيام القصبة 2 النخبة السياسية بأن كتبوا على حائط الوزارة الأولى « لا للجهوية» ! (وهذا موثق)، وكان المؤشر الحاسم بأن النخب الصاعدة في الجهات كانت تتكلم، خلافا لنخبة على بن غذاهم، نفس لغة النخب الحضرية في العاصمة: الحرية المواطنة. لكن الدولة التونسية أنتجت من ناحية أخرى لا توازن تنموي مريع بين الجهات، واحتكارا معيبا للسلطة عند جهات دون أخرى، وما حملات التهكم والاحتقار لكل مسؤول من المناطق الداخلية بسبب لهجته أو عدم تمكنه من اللغة «الأم» الأجنبية إلا -في جانب كبير منها- تعبير عن رفض المشاركة السياسية المتأصلة في العقول الجهوية والنخبوية.

هل هناك اليوم ساحل «نقي» وتوانسة من «جنس بَلْدي» مخلوط بالتركي، وجنوب «رجولي» أو إسلاموي وغدا صفاقس «أصلية»؟ هل هناك سليانة أمازيغية؟ قد يعتبر البعض أن هذا الكلام فيه مبالغة، ولكن إذا نظرنا إلى الظاهرة من زاوية مختلفة قد يتغير هذا الحكم. وزاوية النظر هي ما إذا عند السياسيين اليوم أفكار وموارد إيديولوجية قادرة على حشد الطاقات السياسية خارج «المخزون النوميدي» الذي يشكل دائما حلا محليا عندما تضعف الدولة؟

الجواب عن هذا السؤال نجده في مجلس النواب الغافل جدا على هذه المسألة، والذي بدد كل طرف فيه كل مصداقية راكمها: من «يخاف الله» يبحث عن التحالف مع الفاسد، ومن يرفع شعار مقاومة الفساد تثبت ضده تهمة تضارب المصالح التي هي صيغة مخففة من تهمة الفساد، والمدافع عن الثورة يقبل بالاصطفاف مع من لا يعترف بالثورة ! ماذا بقي للمحرومين في الدواخل وعلى تخوم المدن التي تعتبرهم دخلاء؟ كيف يخترقوا حواجز تاريخ الدولة التونسية التنموي اللامتكافئ؟ ربما الهويات المحلية !. ليس كتعبير جميل عن التنوع الثقافي الذي يمكن أن يصبح راسمال اقتصادي، بل كتعبير سياسي لا يقل خطورة عن استعمال العقيدة في السياسة !

في البحث الذي قمت به بشأن الانتخابات التشريعية من 2011 إلى 2019 (المجلة التونسية للعلوم السياسية عدد 3) لم يثبت لي حتى الآن أن حزبا واحدا استطاع أن يؤسس لرابط إيديولوجي أو قرابي أو إثني أو جهوي مكنه من تثبيت نسبة من الناخبين لصالحه في نفس الدوائر، بل ولم يثبت أن الإسلام السياسي ذو أصول جهوية. لكن الفقر الفكري المدقع الذي عبرت عنه الأحزاب قد يدفع بأكثر قادتهم نفعية ولا تقيدا بفكرة تونس الديمقراطية والعدالة أن يستثمر في المحلي بأدوات «الشيطان النوميدي»…وسيلقى المساعدة من كل من له مصلحة في وضع نهاية للتجربة الديمقراطية في تونس كما يحدث ليس بعيد عنا. يبقى سؤال في غاية الأهمية كيف: نجعل من اللامركزية فرصة لتحقيق الكرامة والقطع مع «الحقرة» دون إيقاض «الشيطان النوميدي»؟

المصدر
المغرب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى