تنمر إقليمي أم عدوان؟
مأمون فندي
أثار الأمين العام لجامعة الدول العربية، السفير أحمد أبو الغيط، في مقاله في هذه الصحيفة (العالم العربي في مواجهة الجائحة والتنمر الإقليمي التركي – الإيراني، الجمعة 19 يونيو/ حزيران 2020) حزمةً من الأخطار التي تهدد الأمن الإقليمي العربي، وسمَّى أحدها «ظاهرة التنمر الإقليمي التركي – الإيراني»، {من دون إسرائيل أو إثيوبيا في العنوان، رغم الإشارة إليهما في المتن}. وما كان لي، أو لغيري ربما، التعليق على المقال، لولا أنَّ كاتبه يمثل الحد الأدنى من الإجماع العربي، بصفته أميناً عاماً للجامعة العربية. والأمين العام يعرف ما أكنُّه له من احترام. ولكن مناقشة السياسات العامة والأفكار أمر مفيد لنا جميعاً، وهو يفتح آفاقاً أرحب لنقاش جاد حول قضايا لا تخصنا وحدنا، بل تتعدانا إلى أجيال عربية قادمة.
في هذا المقال، سأحاول التعرض لنقطة واحدة في مقال الأمين العام، تتمثل في لغة المقال، بصفتها علامة كاشفة، أنطلق من بعدها لتوصيف التحديات الاستراتيجية العربية، بهدف تلمس مخرج مما نحن فيه من أزمة استراتيجية، ولا يكن عندك شك في أننا في أزمة (strategic crisis).
أبدأ بكلمة «تنمر» التي وردت في عنوان المقال. و«التنمر» كلمة انتشرت في عالم «السوشيال ميديا»، وهي ترجمة للكلمة الإنجليزية «bullying»، تستخدم لوصف ضرب من سلوك الطلاب بعضهم تجاه بعض، خصوصاً في المدارس الابتدائية. {وأعتقد أن استخدام المصطلح في العلاقات الدولية أمر جانبه الصواب}، خصوصاً فيما يتعلق بقانونية سياسات الجوار غير العربي، واعتداءاته المتكررة على الأراضي العربية.
فليس هناك في القانون الدولي الحاكم لعلاقات الدول وحل النزاع مكان لكلمة «تنمر» (bullying)، إذ لا يمكن أنْ نعد التدخل التركي المباشر، بعدته وعتاده العسكري، في سوريا، واحتلاله لجزء من أراضيها تنمراً، بل في هذا عدوان صارخ على السيادة الوطنية لدولة عربية أساسية في النظام العربي. وهذا العدوان له توصيف محدد في القانون الدولي، إذا ما قررت دولة عربية طرح قضيتها في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ولا مكان لكلمة «تنمر» في نقاشات قانونية في مجلس الأمن، أو في القانون الدولي.
كذلك، فإنَّ تدخل تركيا المباشر، بالعتاد والقوات، في ليبيا، ليس تنمراً، بل عدوان ليس على ليبيا وحدها، وإنما هو تهديدٌ مباشرٌ للأمن القومي المصري. ولا أدري هل باتت تركيا دولة عظمى تقوم بحربين في سوريا وليبيا في وقت واحد، أم أن هذا نتيجة لحالة الهزال والترهل في الجسد العربي، أم أنه لعزل إردوغان مما يحدث في شرق المتوسط، إذ بدت ليبيا المخرج بالنسبة له. ورغم خطورة ما تقدم عليه تركيا، فإنني أرى أننا، حتى اللحظة، وبالعربي، لم نقدم تقييماً استراتيجياً واضحاً لإمكانات تركيا منفردة، أو قدرتها على التنسيق مع دول أخرى للقيام بمزيد من الأذى للمصالح الاستراتيجية العربية، ولكن هذا حديث له مقال خاص.
أما الاحتلال الإيراني للجزر الإماراتية، وشبه الاحتلال لدولة عربية كبرى، هي العراق، لتكون الكلمة الأخيرة فيها لطهران، فهذا بالقطع ليس تنمراً. ولن أسهب في التدخل الإيراني في لبنان، من خلال أداته القوية، المتمثلة في «حزب الله» الذي يمثل القوة الأعظم في النظام اللبناني لدرجة ابتلاعه للدولة، وهو النموذج الذي تحاول إيران بناءه في اليمن على تخوم المملكة العربية السعودية، من خلال جماعة الحوثي. ولا أظنه تنمراً عندما تُطلَق الصواريخ على المنشآت النفطية في المملكة. أما محاولات إيران لزعزعة الاستقرار في البحرين، وفي بقية الدول العربية، فهذا أمر يطول الحديث فيه؛ إيران تقوم باعتداءات وتهديدات علنية مباشرة لدول عربية كثيرة، وهذا لا يقع تحت يافطة التنمر، بل العدوان.
ويحسب للسفير أبو الغيط أنه أشار بوضوح لما تقوم به الحكومة الإسرائيلية من ممارسات عدوانية على الشعب الفلسطيني، واغتصاب لأراضيه بالقوة، فهذا نهش مباشر في الجسد العربي، وقضم لجزء منه حرفياً، وبقوة السلاح؛ وهذا طبعاً ليس تنمراً، بل هو أصل المشكلة، وأساس لعدم الاستقرار في منطقتنا.
وقد سمعت السفير أبو الغيط يقول ذلك بوضوح عندما كان وزيراً لخارجية مصر. ولكن الاحتلال الإسرائيلي القبيح الذي يقابله انفتاح بعض الدول العربية على إسرائيل لهو أمر تحار فيه العقول، ويجب ألا تكون الإشارة إليه بالتخفيف الحادث في خطابنا العربي المعاصر، وتحويل العدوان المخالف للشرعية الدولية إلى مجرد تنمر.
نطالب أنفسنا بتجديد الخطاب الديني، ولا نطالب بإعادة النظر في خطابنا المهزوم هذه الأيام تجاه حكومة نتنياهو، وكفيلها اليميني في البيت الأبيض؛ كلمة «تنمر» في هذا السياق تعني النزول لأكثر من درجة على سلم المواجهة مع إسرائيل، ولا نحتاج إلا أن ننزل درجة أخرى لرفع الراية البيضاء، وإعلان الهزيمة على مستوى الخطاب العام؛ ولا أظن أن الأمين العام يقصد ذلك، إنما نعدُّ ذلك انزلاقاً لغوياً لا أكثر.
أما إثيوبيا، وتعديها على حصة كل من مصر والسودان من مياه النيل، فأظنها بدأت على ساعة السفير أبو الغيط (on your watch، كما يقول الأجانب)، أيام كان وزيراً لخارجية مصر. ومن الأخطاء الشائعة أن التعنت الإثيوبي بدأ بعد ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011، ذلك لأنني أذكر بوضوح لا لبس فيه أنني ناقشت سيادته، عندما كان وزيراً لخارجية مصر، في مكتبه، قبل «ثورة يناير»، في مسألة أمن المياه، وكان في حيرة من السلوك الإثيوبي، وذلك لأنَّ أمر سد النهضة بدأ عام 2009. وفي 2010، كانت تصاميم السد كاملة، وكانت مصر على علم بما يجري.
هذه ملاحظات أولية على تخفيف اللغة في خطاب الأمين العام الذي بدا فيه العدوان المباشر وخرق القانون الدولي مجرد تنمر.
اللغة في الدبلوماسية أمر شديد الحساسية، واستخدام المفردات قد يعنى دلالات لا نقصدها، وأتمنى أن يكون الأمر كذلك في مقال الأمين العام لجامعة الدول العربية. فالقانون الدولي يعرف العدوان على السيادة، ولا أعرف أن هناك في القانون الدولي كلمة «تنمر»، والأجدر بنا في سياق القضايا الخاصة بالعلاقات الدولية أن نلتزم القانون الدولي ولغته حتى لا نخسر القضايا قبل أن نبدأ في الحوار حولها.
إن في توصيف ما يحدث حولنا بشكل أقرب إلى الدقة بداية لتلمس الحلول للأزمة العربية الحالية، وهي فعلاً أزمة (crisis).
تطرح الأزمات المحيطة بنا، متمثلة في عدوان الجوار غير العربي على الأراضي والمصالح العربية من الجهات الأربع تقريباً، تحدياً حقيقياً بشأن محاولة البحث عن إطار جديد للأمن القومي العربي (new framework for security)؛ هذا الإطار يجب أن يضع في الحسبان قضايا الاعتداء المباشر على الأراضي من قبل إيران وتركيا وإسرائيل، وقضايا الاعتداء على المصالح، المتمثلة في الاعتداء الإثيوبي على حصتي مصر والسودان في مياه النيل.
ويمكن أن يكون للجامعة العربية دور في مساعدة العرب مجتمعين على تلمس طريق الخروج من الأزمة الراهنة. وقد يدعي من يعارضون دور الجامعة أنها مؤسسة لم تعد قادرة على مواجهة التحديات، ولكنني أرى أن للجامعة دوراً مهماً يجب ألا نغفله.
وهنا، أقترح بداية، لتلمس طريق الخروج من الأزمة، أن تقوم الجامعة باستضافة عشرين خبيراً من العقول الاستراتيجية العربية، وجمعهم مبدئياً في غرفة واحدة، في إطار مجموعات عمل للحديث: أولاً عن توصيف دقيق للأزمة، والتحديات التي يشكلها الجوار غير العربي بالنسبة لنا؛ وثانياً الخيارات المتاحة لنا؛ ثم ثالثاً نوعية السيناريوهات الممكنة لملامح إطار جديد للأمن الإقليمي. ولكي يكتب لحوار استراتيجي كهذا النجاح، لا بد أن تكون نسبة البيروقراطية والسفراء أقل بكثير من نسبة الخبراء في تلك الجلسات، حتى لا ينزلق الحديث إلى ما هو روتيني معتاد. فحقيقة تهديدات الجوار غير العربي أكبر مما هو متداول، وقدرات دول معادية مثل إسرائيل وإيران وتركيا أفضل مما كانت عليه في السابق، وهذا يتطلب تقديرات استراتيجية جديدة.
الجامعة العربية، بصفتها إطاراً للحد الأدنى من العمل والتنسيق العربي المشترك، تحتاج إلى شراكة مع العقول من خارج المؤسسات التقليدية للحديث الخلاق حول تحديات العالم العربي المعاصرة.
فبحكم العادة، والحديث عن الصراع العربي – الإسرائيلي لسنوات، أصبحت لغة الخطاب العربي حول القضية الفلسطينية مفرغة من مضمونها، نتيجة لتكرار بيانات يصعب ترجمتها إلى أي من اللغات الحية. أما ونحن الآن بصدد تحديات متعددة، من فشل الدول في العالم العربي، كحالة الصومال واليمن وليبيا، أو الاقتراب من الفشل، في حالتي سوريا {والسودان} ودول أخرى تعاني من عدم الاستقرار، ليصل تعداد الدول العربية المستقرة إلى أعداد لا تتجاوز أصابع اليدين، فلا بد من وقفة مع دور الجامعة العربية، بصفتها أداة تنسيق بين الدول العربية، والتركيز هنا على «الدول» أكثر من «العربية» في عبارة «الدول العربية»، حتى نكون أكثر جدية في الطرح.
الجامعة العربية كيان يحتاج إلى عمل خلاق ليقوم بدوره في مواجهة التحديات المعاصرة، وبداية هذا الطريق أن تكون الجامعة مكاناً آمناً لطرح ومناقشة الأفكار الجديدة (Arab Forum)، من خلال وجوه جديدة تتسم بالجرأة والجدة معاً، وكذلك حسن التدريب. الوضع القائم الذي تناقش فيه الأفكار من خلال أصوات محدودة التدريب، رتيبة من حيث تكرارها، أمر يحتاج إلى إعادة نظر، وعلى عجل.
حالة التفكك العربية الحالية لا تضاهيها إلا أحوالنا ما قبل الاستقلال. والتحديات الاستراتيجية لمستقبل العرب خطيرة، وما يحدث حولنا، وما يفعله الجوار غير العربي بنا، ومعه بعض القوى الدولية، يحتاج إلى تعريف واضح، وبداية التعريف الجيد دقة الوصف. ووصف الحال – كما أراه – هو عدوان، وليس تنمر. والوضع القائم في أزمة لا بد من مواجهته بتفكير جديد وأطر جديدة وعقول جديدة، وأخيراً لغة جادة جديدة.