تمرد مقنن!
محمد العجمي
التمرد طابع للكائن الحي، ففي قطعان العديد من الكائنات يتمرد “الشباب” على قائد القطيع فيتقدمون لمنافسته وتختلف طريقة المنافسة من كائن لآخر، فإن هزم الفرد “الشاب” قائد القطيع تكون مكافئته استلام القيادة بدلاً عنه أما لو انهزم أمام القائد فيكون أمام خيارين إما مغادرة هذا القطيع أو الذهاب لآخره، علامة على إهانته ورسالة لباقي الأفراد تصف ثمن التمرد.
القوانين البشرية بالطبع تختلف، لكنها تتباين من مجتمع إلى آخر، فتلك المجتمعات التي قطعت شوطاً كبيراً في صياغة عقد اجتماعي أكثر سلمية، والتي مر كثير منها بتاريخ دموي ثمناً لذلك، صارت عواقب التمرد على القوانين فيها أقل صرامة، بينما ظل عقاب الخارجين عن إمرة قطيعهم في المجتمعات الأكثر تأخراً – التي لا تشبه مجتمعاتنا المصونة طبعاً –مخيفاً ومرعباً يدفع صاحبه حياته نتيجة ذلك في كثير من الأحيان.
الخروج عن قانون القطيع أو التمرد يصعب تعريفه كذلك عند هذه المجتمعات العنيفة، فهو يشمل طيفاً واسعاً من التصرفات يختار أن يحددها أفراد المجتمع ضمنياً في قانون غير مكتوب بينهم، فيكون في بعض الأحيان حتى التفكير في ما يعتبرونه محرماً خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه وإعمال العقل فيه ممنوعا، وهذا “الممنوع” مقدس مصون أياً كان سواء الحديث في السياسة أو مباريات كرة القدم، والمسؤول عن سن القوانين وتحديد العقوبة هنا هو القطيع كاملاً، دون معرفة “متى” أو “من” قرر أن يكو/ن هذا الشيء أو ذاك خطاً أحمر.
هذه المواجهة العنيفة خلقت نوعين من المتمردين في المجتمعات التي خلقت سلطة تشكل خطراً على حياة أفرادها نتيجة تمردهم، حيث مال البعض إلى أن يكون متمرد سلطة – إن صحت التسمية – أو مصلحاً من داخل النظام كما يحلو للكثيرين تسميته، سيحارب من أجل إعلاء القيم المثلى التي يتحدث عنها المجتمع، فهو يرى أن النظام الذي يعتمده مجتمعه ليس عائباً بالكامل، بل المشكلة في القائمين على تنفيذ هذا النظام أو قادة المجتمع، فالمشكلة هنا مشكلة أشخاص ورؤية وتطبيق وليست مشكلة بنيوية كاملة، وإن تعاظم الاختلاف مع المجتمع فبرأي المتمرد “المصلح” أن حل هذا الإشكال يجب أن يكون بأقل الأثمان مقابل عدم إيلاء أي أهمية لعامل الزمن.
مقابل هذا المتمرد “المصلح” كان المتمرد “القطعي”، وهو الذي يخرج بالكامل عن قوانين السلطة الحاكمة، ففي رأيه النظام بكليته لا يصلح للاستمرار، يجب تغييره وقتياً من دون انتظار، خلافه لا يكمن في أشخاص أو طريقة تنفيذ بل فساد منظومة كاملة من القوانين والأفكار التي كونت علاقات أفراده،فينشط “القطعي” أو يحاول خلق واقع بديل وتفكيك النظام الذي يدافع عنه المستفيدون أو الخائفون من التغيير، وفي أكثر أوضاعه سلبية يختار المتمرد “القطعي” العبثية سلاحاً في وجه مجتمعه الذي يقمعه بقوة، وقد يتعدى ذلك لتجسيدها في أفراد يعتبرهم النموذج الأمثل لهذا النظام الذي يمقته، فيسخر منهم ويجعلهم أضحوكة في ملهاته العبثية التي يتحدى بها المجتمع.
الصدام بين المجتمع والمتمردين “المصلح” و”القطعي” حتمي لا مفر منه يتفاوت في المقدار والزمن والعقوبة، كذلك يأخذ الصدام والتحالف بين المصلح والقطعي أشكالاً عديدة، تارة يكونان في صف واحد وتارة يتبادلان أشد العداء، ليكون المصلح في نظر القطعي أداة من أدوات السلطة، بينما يرى المصلح أن صديقه اللدود يعيق جهده المبذول في تغيير على المدى البعيد، ويتفق الطرفان على حتمية التغيير.
يبقى الأثر هنا لطريقة الأفراد في تأطير تمردهم أو إطلاق عنانه، فرض تأثيره أو اكتساب العداء له، وأسلوبهم الذي ينعكس على المجتمع ليلفظهم ويعاقبهم ويقمعهم – مصلحين وقطعيين – أو يفتح لهم باب المشاركة في خلق مناخ سلمي يجعل التمرد واقعاً لا مفر منه،وعندها يحتاج المجتمع أن يعالجه بالاحتواء الذي ينتج عنه مناقشة أفكار صاحبه سواء تقبلها أم لا، هذه الطريقة تتطلب خلق مشروع للمتمرد يفهم من خلاله شروط النظام سواء أراد تغييره أم هدمه، ويقدم بدائله وحلوله، أو على الأقل أساليب وطرقا يسلكها من اتفق معه في رؤيته، ويفرض على مناوئيه تطوير سلوكياتهم العنيفة إلى سلوكيات أكثر سلمية الأمر الذي يطور أفكارهم كذلك إلى مشاريع وبالتالي يفرض عليها تغييرا يحدثها بسلطة الأمر الواقع شاءت أم أبت.
كل هذه التقنيات الاجتماعية تحتاج أشخاصاً ذوي هم حقيقي في التغيير الاجتماعي الذي يبشر بشروط عيش أكثر إنصافاً لمجتمعات نال منها التخلف وخسرت كثيراً من الوقت والأنفس للحاق بركب الحضارة، فمن أراد التظاهر بمعارضة شروطه المجتمعية لأجل الظهور بمظهر النجم فلا رجاء منه، أما من أراد تغييراً حقيقياً، مكلفاً أو رخيصاً، سريعاً أو بطيئاً، فلا بد له من جهد جهيد يبذله، كل حسب رجائه، فعلى قدر أهل العزم تأتى العزائم.