تلفيق خروج مقاتلي داعش الأجانب من الرقة بعد تدمير المدينة
علي العائد
آخر الأخبار المتداولة عن الرقة في الآونة القريبة الماضية ليست متناقضة فقط حسب مصادرها وحسب أهواء المصرحين بها، بل تفوح منها رائحة الكذب خاصة لجهة أسماء الأحياء التي يسيطر عليها داعش، ونسب سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على الأحياء “المحررة”، مرة على اللسان الأميركي، ومرة على لسان الناطق الإعلامي باسم “قسد”.
المؤكد هو وجود ما يمكن تدميره في الرقة، فنسبة الدمار لم تصل بعدُ إلى مئة في المئة. وعدد الجزر التي لا يزال يتحصن فيها المقاتلون الأجانب في داعش مبرر كاف لمواصلة القصف، خاصة أن بعض هذه الجزر متباعدة نسبيا، وطيران التحالف أثبت عدم حرصه على حياة المدنيين وعلى بيوتهم، ودون أن يخفف من هذه الخشية أن الأعداد التقديرية لما تبقى من المدنيين في المدينة في تناقص.
وعلى خلاف ما أعلنته “قسد” مرات خلال الشهر الأخير من أن “معركة تدمير الرقة” المستمرة منذ أكثر من أربعة شهور تبقى لها أسبوع أو أيام أو ساعات، يبدو أن ما تبقى من قوة التنظيم بعد كل تلك الشهور من قصف طيران التحالف ومدفعية قسد والقنص المتبادل والقتال الاستعراضي، يبرر الدخول في مفاوضات لخروج مقاتليه سالمين بسلاحهم الخفيف نحو جهة ما في دير الزور اشترطت “قسد” أن تكون مدينة الميادين شرق دير الزور، لكن أخبار سيطرة قوات النظام الأسدي على معظم مدينة الميادين نسفت شرط قسد.
بالطبع، المفاجآت تبقى دائما في التفاصيل. فأول الأخبار كان ما كشفه مصدر خاص لوكالة “سمارت” أن داعش طلب توفير 250 حافلة لتقل الدفعة الأولى من العناصر وعائلاتهم. وحسب “سمارت”، تسبب ذلك بـ“صدمة” لـ“قسد”، كون تقديراتها المعلنة كانت تشير إلى وجود نحو 700 عنصر من داعش في المدينة، وليس أكثر من ثلاثة آلاف مدني، لكن بورصة الأخبار الأخيرة هبطت بالعدد إلى 21 حافلة فقط قد تنقل المئات من المقاتلين مع عائلاتهم إلى جهة ما في دير الزور ليل السبت-الأحد. أما إشاعة نهار الأحد فتحدثت عن طلب داعش 70 شاحنة لنقل مقاتلي داعش وعائلاتهم مع خمسة آلاف مدني كدروع بشرية لضمان عدم مهاجمة قافلتهم، لكن الأخبار تحدثت صباح الاثنين عن خروج مقاتلي داعش في اتجاه محافظة دير الزور ليل الجمعة-السبت، أي قبل تسريب أخبار الصفقة، ومن بين هؤلاء مقاتلون سوريون وأجانب مع عائلاتهم، دون الحديث عن اصطحاب دروع بشرية من المدنيين.
الدراماتيكية ستأتي من عناصر متمردة في داعش رفضت مبدأ الصفقة، وأصرت على الدفاع عن (الدولة الإسلامية) حتى آخر نفس
مبدئيا، كان العدد الأول من الحافلات (250 حافلة) يكفي لنقل أكثر من 12 ألف إنسان جلوسا ودفعة واحدة، إذا كانت الحافلات المقصودة كبيرة. ما يدل على كذب الخبر أو تلفيقه، دون معرفة سبب ذلك.
وحسب إعلام قسد والتحالف الدولي، يتواجد داعش الآن في الرقة في مبنى المشفى الوطني، وفي الملعب البلدي وشوارع متفرقة في المدينة، أي في جزر منعزلة، لكن غير متباعدة تبعا لمساحة المدينة الصغيرة.
أما الوساطة بين قسد وداعش فتقوم بها حسب مصدر “سمارت” زعامات عشائرية على علاقة بـ“مجلس الرقة المدني” الذي شكلته قسد في أبريل الماضي، وهدف الوساطة هو مقايضة المدنيين المحاصرين في المدينة بخروج مقاتلي داعش سالمين، وتسليم المقاتلين من أبناء الرقة في صفوف التنظيم إلى السلطات المحلية، أي قسد ومجلس الرقة المدني لـ”تسوية أوضاعهم”.
كان أمام إتمام هذه الصفقة عائقان، الأول هو رفض التحالف لها، كون “انتقال هؤلاء إلى الميادين سيتسبب في مشاكل”، حسب الأميركان. والثاني هو رفض التحالف قصف المبنى الكبير للمشفى حفاظا على سلامة عملاء التحالف بين صفوف داعش، لكن آخر ما تسرب أن الجانب الفرنسي في التحالف هو من تولى موضوع المفاوضات مع أجانب داعش.
بالتأكيد، تخشى الولايات المتحدة من أن تضع نفسها في موقف مشابه لموقف “حزب الله” مع داعش في عرسال قبل حوالي شهرين، إضافة إلى حرص أميركا على تجنب حالة الكبرياء الجريحة التي قد تنتج من التفاوض مع إرهابيي داعش. كما أن تمرير هذه الصفقة يتطلب تفاهما بين قسد والتحالف لضمان وصول القافلة إلى وجهتها، بل حمايتها من احتمال مهاجمة الطيران الأسدي أو الروسي، خاصة بعد إعلان أميركا أن التفاوض الوحيد الممكن مع مقاتلي داعش الأجانب هو الاستسلام دون شروط، حسب إعلام التحالف وإعلام قسد، لكن الفرنسيين جنبوا أميركا هذا الموقف جزئيا بـ“تسفير” جزء من المقاتلين الأجانب نحو شرق دير الزور.
الأمر الأكثر إثارة للشك في كل تلك الأخبار كان حجة التحالف في رفض قصف مبنى المشفى الوطني، مبررا الرفض بحماية عملائه المنتشرين بين مقاتلي داعش. هذا ينسف خبر الرفض من أساسه، إن كان لأميركا عملاء بين داعش. وعليه، قد يكون تلفيق وجود عملاء للتحالف بين صفوف داعش فصلا من الحرب النفسية غايته شق صفوف التنظيم وزرع الشك في ولاء عناصر غير معلومين بينهم للتعجيل في القضاء على ما تبقى منهم في الرقة من الداخل.
كما أن التأسيس على فرضية صحة خبر الـ250 حافلة، كدفعة أولى لنقل مقاتلي داعش، يدعو إلى التشكيك في أعداد مقاتلي داعش ما بين 700 وبضعة آلاف.
الآن وبعد استسلام نحو 275 من مقاتلي داعش السوريين والأجانب، لـ“قسد”، يبدو أن معركة حقيقية ستنشب أخيرا بين مقاتلي داعش الأجانب وبين قسد على الـ5 في المئة الأخيرة من المدينة تحت سيطرة داعش، حسب تقديرات وحدات حماية الشعب الكردية، المكون الأساسي القائد في “قسد”، أو 15 في المئة من المدينة، حسب الناطق الأميركي باسم قوات التحالف. والنسبتان أقرب إلى القياس وليس النسب الحقيقية، بالاستناد إلى جزر الأحياء التي تم الإعلان أن داعش لا يزال يتحصن فيها.
المؤكد الآن أن عمرَ ما تبقى من المواجهة في الرقة أيام فقط، تتجاوز أو لا تتجاوز الأسبوع، وسينتهي فيها وجود داعش تماما، ما يعني انتقال المعركة ضد التنظيم إلى مكان آخر بدأت بوادره منذ شهور في البادية
كل ذلك التلفيق لا يأتي فقط من تعدد الناطقين الرسميين الأميركيين والأكراد الذين يستدلون فقط على وجود داعش هنا أو هناك بوجود قناص على سطح هذا البناء، أو وراء ثقب في جدار إحدى الشقق، بل من الجهل بجغرافية توزع أحياء المدينة. فحارة البدو لا تجاور حي الفردوس، إذ يقع بينهما الملعب البلدي، ما يعني فصلا تاما بين داعش في الحي الأول، وقوات قسد في الحي الثاني. بينما يتحصن داعش، حسب إعلام قسد والأميركان، في المشفى الوطني، أي أن هذا التوزع يعني أن قوات قسد التي تدعي أنها تحاصر داعش بين هذه الأحياء هي نفسها محاصرة وإن كانت محمية بالطيران.
في إطار هذه المعلومات غير الشفافة ينخفض احتمال استسلام عناصر داعش كثيرا. وحتى إذا استسلم قسم منهم سيتمسك ربما بضع عشرات بحقهم “في الجنة”، وسيكون على الطالب الذي يريد الحصول على علامة الامتياز الاجتهاد كثيرا لتحقيق نسبة أكبر من 95 في المئة حتى يفتخر بنجاحه، إن كان داعشيا أو قسديا. كيف الأمر وقد أمضى متوسطو الذكاء من مقاتلي قسد ما يقترب من خمسة أشهر حتى حققوا النجاح بنسبة مقبول أو وسط، حتى بعدما “غششهم” طيران التحالف ودمر الجزء الأعظم من المدينة.
في الأيام المقبلة سنختبر صحة الأخبار وتفاصيلها، وأخبارا أخرى بتفاصيل أكثر غموضا. فمثل ذلك التدمير الذي تعرضت له المدينة تليق به نهاية دراماتيكية وليس مجرد استسلام يؤكد على الدور الوظيفي لداعش الذي انتهى في الرقة ليبدأ في مدينة أخرى، أو بادية غير محددة العلامات.
الدراماتيكية ستأتي من عناصر متمردة في داعش رفضت مبدأ الصفقة، وأصرت على الدفاع عن “الدولة الإسلامية” حتى آخر نفس. وقد تأتي من مكيدة رسمها التنظيم ووقعت فيها قسد والتحالف. وعندما تطمئن قسد إلى خلو المدينة تماما من عناصر داعش، أو من معظمهم، سيبدأ متمردو داعش معركة جديدة ستتسم بالسرعة، وستنتهي بدراماتيكية هذه المرة، وبخسائر كبيرة من جانب قسد، حتى لو قُتل فيها آخر داعشي.
المؤكد الآن أن عمرَ ما تبقى من المواجهة في الرقة أيام فقط، تتجاوز أو لا تتجاوز الأسبوع، وسينتهي فيها وجود داعش تماما، ما يعني انتقال المعركة ضد التنظيم إلى مكان آخر بدأت بوادره منذ شهور في البادية، وفي اتجاه دير الزور، دون أن تتضح أهدافها حتى الآن أو تعرف الأطراف المشاركة فيها، على خلاف معركة تدمير الرقة التي كانت من نصيب قسد وأميركا ومن ورائهما التحالف الدولي.
وفي النتيجة، هذا يعني انتهاء مباراة القتال في الرقة بالنقاط، دون ضربة قاضية للتنظيم في المدينة، حتى بعد أن تم تدمير “عاصمة الدولة” تماما.
…………………….
العرب