تقسيم سوريا بسياسة الأمر الواقع
عثمان ميرغني
ما يجري على الساحة السورية وحولها هذه الأيام أحيا الكلام مجدداً عن مخططات التقسيم، خصوصاً في ظل السباق المحموم بين الأطراف المختلفة لاقتطاع مناطق نفوذ استراتيجية، والمخاوف المثارة بشأن «مناطق خفض التصعيد» المقترحة، والتفاهمات الروسية – التركية – الإيرانية الأخيرة.
صحيح أن الحديث حول مخاوف التقسيم ظل يلازم الأزمة السورية منذ اللحظة التي تحولت فيها إلى حرب داخلية بأبعاد إقليمية ودولية، وصحيح أيضاً أن البلد بدا مقسماً بحكم الأمر الواقع منذ سنوات، وذلك مع تقطيعه إلى مناطق واقعة تحت سيطرة الأطراف المختلفة، لكن أحداث الفترة الأخيرة والتحركات المرافقة على الأرض أعطت الانطباع بأن الأطراف الدولية والإقليمية بدأت تتحرك فعلياً في اتجاه خطط تقود إما إلى التقسيم، أو إلى إبقاء سوريا في حالة من التمزق والاحتراب الداخلي والتجاذب الإقليمي والدولي لسنوات كثيرة مقبلة، أي إلى حالة عراقية أخرى، ولكن بصورة معدلة.
وأكثر التطورات اللافتة في الآونة الأخيرة كان السباق المحموم بين قوات النظام السوري وإيران وحلفائها من جهة، وبين أميركا وحلفائها من فصائل المعارضة السورية من الجهة الأخرى، للسيطرة على منطقة الحدود السورية – العراقية. فإيران لديها مشروع لإيجاد ممر يمتد من حدودها عبر العراق حتى مناطق الساحل السوري. فهذا الممر يعني أن يكون لها منفذ مفتوح للإمدادات من إيران إلى سوريا، يمكن أن يستخدم لاحقاً أيضاً كخط إمداد إلى «حزب الله» في لبنان.
وفي هذا الصدد، دعمت طهران بقوة ميليشيا «الحشد الشعبي» العراقي حتى أصبح قوة كبرى في العراق، على غرار «حزب الله» في لبنان، وإن كان يقل عنه كثيراً من ناحية التنظيم والانضباط والخبرة العسكرية والقتالية.
وعلى الجانب السوري، استثمرت إيران أيضاً كثيراً في دعمها لنظام بشار الأسد، كما عملت مع «حزب الله» اللبناني على بناء وتدريب قوات في سوريا تكون نواة مستقبلاً لما يشبه «الحشد الشعبي»، خصوصاً أن كل المؤشرات تدل على أن سوريا ستكون خاضعة مستقبلاً لتوازنات بين القوى والميليشيات المسلحة المدعومة من أطراف خارجية.
وعندما اندلعت معركة تحرير الموصل، فرض «الحشد الشعبي» لنفسه دوراً فيها. ومنها، انطلق أخيراً في اتجاه منطقة الحدود السورية، ليلتقي هناك مع قوات النظام السوري وحلفائه من الإيرانيين ومن «حزب الله» والمقاتلين المحليين، وكانت تلك خطوة مهمة في إطار وضع الممر الإيراني موضع التنفيذ. لكن «اللقاء الرمزي» بين هذه القوات على الحدود العراقية – السورية لم يمر مرور الكرام، فبدأت بعده سلسلة من الاحتكاكات مع المعارضة السورية المدعومة من واشنطن، كما قصفت القوات الأميركية قوات النظام السوري وحلفائه، بحجة منعهم من الاقتراب من قاعدة التنف التي تستخدمها القوات الخاصة الأميركية لدعم المقاتلين الموالين، ولمنع تسلل فلول «داعش» من العراق إلى سوريا.
واشنطن تريد أن تمنع بلا شك فتح ممر يربط من إيران إلى العراق وسوريا، واضعة في حساباتها أن إسرائيل تراقب الأمر بقلق أيضاً. وفي حين تعمل أميركا لمنع هذا الممر، فإن إسرائيل كثفت في الأيام الأخيرة غاراتها على مواقع القوات السورية قرب مناطق الجولان، لتوجيه رسالة لدمشق بأنها لن تقبل باقتراب إيران أو «حزب الله» من هذه المناطق، خصوصاً في ظل المواجهات الدائرة بين قوات النظام السوري والمعارضة في القنيطرة.
الأردن كذلك يراقب ما يحدث في منطقة الحدود العراقية، وعلى جبهة درعا الجنوبية، خصوصاً مع التقارير عن أن الحرس الثوري الإيراني بات يوجد في مطار عسكري سوري لا يبعد أكثر من 75 كيلومتراً عن الحدود الأردنية.
ما يحدث على هذه الجبهات لا يمكن فصله عما يحدث على جبهة معركة الرقة، والدعم الأميركي لقوات «سوريا الديمقراطية»، التي يشكل الأكراد عمادها، لكنها تضم أيضاً مجموعات عربية. فتركيا عبرت عن قلقها الشديد من تسليح الأميركيين لأكراد سوريا، ولوحت بأنها مثلما تدخلت في السابق لمنع تمدد الأكراد في الشمال السوري، خوفاً من أن يشجع ذلك حلم الفيدرالية الكردية، فإنها قد ترسل قوات مجدداً لمنع أي تمدد جديد لقوات حماية الشعب الكردية، المنضوية تحت لواء قوات سوريا الديمقراطية. وبينما اتهم الرئيس التركي رجب طيب إردوغان حلفاءه الغربيين، خصوصاً الولايات المتحدة، بممارسة الألاعيب، فإن حكومته قالت إنها تلقت تأكيدات من واشنطن بسحب الأسلحة المتطورة من الأكراد بعد معركة الرقة.
لكن وزير الدفاع الأميركي جيم ماتيس صبّ ماءً بارداً على هذه التأكيدات التركية قبل يومين، ملمحاً إلى أن واشنطن قد تستمر في تسليح «وحدات حماية الشعب» الكردية السورية حتى بعد استعادة الرقة من «داعش»، وكان رده على أسئلة الصحافيين: «دعونا نرَ، فالمسألة ليست وكأن القتال سينتهي بعد استعادة الرقة».
الرسالة من كل الأطراف أن سوريا لا تزال بعيدة كل البعد عن «خفض التصعيد»، بل إنها قد تكون متجهة نحو مرحلة أخرى من التصعيد والصراع لاقتطاع مناطق نفوذ، أو توسيع أخرى بما يعني عملياً خطوة أخرى نحو التقسيم… بسياسة الأمر الواقع.
صحيفة الشرق الأوسط