تقارُب وخلافات بين روسيا وتركيا في سوريا
فيتالي نعومكين
بمناسبة انعقاد القمة «الروسية – التركية – الإيرانية» في أنقرة أمس، يزداد الاهتمام في العالم بوضع وآفاق تسوية الأزمة السورية نفسها، وكذلك بالعلاقات بين البلدان الثلاثة «الضامنة». وكان بمثابة مفاجأة إعلان سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي، في حديث أدلى به في 13 من الشهر الحالي، أن الحرب السورية قد «انتهت فعلاً»، وبقيت «عدة بؤر توتر منفردة» في المناطق غير الخاضعة للحكومة السورية، ومنها مثلاً إدلب والضفة الشرقية لنهر الفرات.
وفي هذا السياق، كان من الطبيعي أن ينصبّ الاهتمام الشديد على جميع مَن يشغل باله مصيرُ سوريا، والأزمان العصيبة التي يكابدها الشرق الأوسط بأسره، على التعاون بين موسكو وأنقرة المتنامي بصورة ديناميكية بالغة في الفترة الأخيرة.
ورغم أن التقارب الروسي – التركي يمضي بوتائر سريعة للغاية، توجد خلافات ملحوظة جيداً بينهما، ومن ضمنها المسار السوري. وكما هو معروف؛ فبموجب المذكرة الموقعة في 17 سبتمبر (أيلول) 2018، أُعلِن إيقاف إطلاق النار في إدلب، ووجب أن تُستحدَث في 15 أكتوبر (تشرين الأول)، منطقة منزوعة السلاح هناك بعمق 15 – 20 كيلومتراً، بين ما تُسمّى المعارضة السورية الشرعية (وقد اعترفت روسيا بها بهذه الصفة، رغم أنها تشنّ عمليات قتالية ضد دمشق) والجيش السوري. وتم الاتفاق على إقامة نقاط مراقبة عسكرية تركية (يبلغ عددها اليوم 12 نقطة)، إلى جانب الشرطة العسكرية الروسية.
أما فصائل «هيئة تحرير الشام» وغيرها من الجماعات المتطرفة، فقد تعهدت مع تركيا بتحييدها، مع أنه لا يُفهم البتة كيف يمكن تحقيق ذلك.
ورغم اللقاءات الكثيرة بين بوتين وإردوغان، ناهيك عن لقاءات رؤساء الدوائر القيادية، لمناقشة الموضوع السوري، تواصَل انتهاك الاتفاق. وأشار الزعيم الروسي إلى أن الإرهابيين واصلوا إطلاق النار على المواقع السورية، وحاولوا مهاجمة مواقع العسكريين الروس، في حين أن منطقة الفصل كان يجب ألا تكون ملاذاً للمسلحين ومنصة لإطلاق النار وشن الهجمات، ولهذا اتفق مع الزعيم التركي على اتخاذ «تدابير مشتركة إضافية»، من دون تحديد ماهية هذه التدابير. وفي أثناء زيارة إردوغان لمعرض الطيران بضواحي موسكو، أبلغت روسيا تركيا بأنها ستوقِف إطلاق النار في إدلب من جانب واحد اعتباراً من 31 أغسطس (آب).
كما أعطت موسكو الضمانات لتركيا بأن الجيش السوري لن يهاجم أكثر نقاط المراقبة التركية. وكان ذلك أمراً مهمّاً بالنسبة إلى أنقرة، علماً بأنه كان مفهوماً لدى الجميع أن دمشق لا تستطيع شن أي عمليات عسكرية ناجحة بلا دعم روسيا.
ورغم أن الدوائر السياسية الروسية قد أعربت عن قلقها من الأنباء حول عقد الاتفاقات التركية – الأميركية بشأن منطقة الأمن في سوريا، التي يمكن أن يُنقل إليها اللاجئون السوريون، فقد كان رد فعل موسكو الرسمي يتسم بالهدوء.
بعبارة أخرى، فإن تركيا تبقى رغم جميع الخلافات القائمة شريكاً مهماً لروسيا، كما تبقى العلاقات الودية جدّاً بين الزعيمين، بمثابة ضمانة نجاح تطور الشراكة بين البلدين.
هل يمكن اعتبار أن أحد الدوافع للتقارب بين موسكو وأنقرة هو خصوصيتهما، التي أصبحت أحد أسباب نسبهما إلى «الدول – الحضارات» التي تقابل «الدول – الأمم»؟ أعتقد أن أول مَن طرح هذا المصطلح للتداول هو مارتن جاك في كتابه «When China Rules the World»، الذي أكد فيه أن تاريخ الصين كـ«دولة – أمة» يبلغ 120 – 150 عاماً، بينما توجد الحضارات خلال آلاف السنين بينها الحضارة الإسلامية.
يعترف الجميع بأن الصين نموذج كلاسيكي لهذا النوع من الدول، وينسب بعض المحللين روسيا والهند وتركيا إليها أيضاً. وقد أكد غيديون ريتشمان في «فاينانشيال تايمز» أن القرن الـ21 سيكون قرن «الدول – الحضارات»، وتقترب من هذه الفئة، ويا لغرابة الأمر، الولايات المتحدة. فما الذي يقربها من هذه الفئة؟ يزعم أن سياسة الرئيس الأميركي الحالي إزاء المهاجرين، نظراً لكون «الدولة – الحضارة» متميزة و«لا يندمج فيها أبداً أبناء الأقليات والمهاجرون، لأنهم لا يشكلون جزءاً من نواة الحضارة». وهنا «نهش» المؤلف الصين مع روسيا وتركيا، وكذلك أميركا.
يتفق محللون في الرأي لدى تحديد مكونات سكان «الدولة – الحضارة». وحسب رأي م. جاك فإنها تتسم بالتنوع الإثني والطائفي الذي توجه الضربة إليه سياسة «نزعة التحضر». وحسب وجهة نظر أخرى، فإن هذه الدول متجانسة عموماً، وتغلب فيها المجموعات الرئيسية من السكان (على سبيل المثال وجود نسبة 90% من قومية الهان في الصين و80% من الروس في روسيا).
ويرد في كتاب شهير آخر – «The China Wave: Rise of a Civilization State»، ومؤلفه جانغ ويوي من جامعة فرانسيسكو، أن الصين حققت النجاح لأنها تخلَّت عن الأفكار السياسية الغربية، واتبعت بدلاً منها النماذج المتجذرة في الثقافة الكونفوشيوسية والقائمة على تقاليد منهج الاختبارات (exam based). واعتماداً على ذلك يتحدث الكتاب الغربيون عادةً عن دور نظرية غوانتسي (guanxi) – وهي نوع من التضامن الذي يزعم بأنه يوجد مثيل له في بعض تقاليد المجتمع الروسي (الانتماء إلى الجماعة، كما يبدو)، رغم أن الثقافة الروسية بعيدة جداً عن الكونفوشيوسية. بالمناسبة، فإن عدم تقبل أحكام الديمقراطية الليبرالية الجديدة تتسم به الدول التي لا تنتمي إلى «الدول – الحضارات».
ويركز بعض المؤلفين، الذين يستخدمون المفهوم الجديد «الدولة – الحضارة» في وصف بلدان، انتباههم على عدم قبولهم أي قيم عامة في العالم الغربي. حقّاً، إنهم يواصلون بتحفظ اعتبار الهند «أكبر ديمقراطية في آسيا». وفي هذا السياق غالباً ما تورد أقوال زعماء الحزب الحاكم في هذه البلاد التي تدل على موقفهم «التحضري»، ويجري التركيز فيه على دور الدين. وهنا ينبغي التحدث عن «الدهارما» (dharma) باعتبارها أهم نظرية مفاهيمية لحزب «بهاراتيا جاناتا بارتي»، والزعم بأنها تنتقل من الديمقراطية إلى النزعة القومية.
ولدى الحديث عن فئة «الدول – الحضارات» تتم الإشارة إلى امتداد وجودها، رغم أنه توجد هنا اختلافات بين البلدان، وكذلك خصوصيتها الحضارية آنفة الذكر، والشفرة الثقافية التي تميّز الهوية الذاتية المتجذرة فيها بعمق، والموروثة عن أجيال الآباء والأجداد الكثيرة.
لكن إذا ما رجعنا إلى التطور العاصف للصين فلا بد أن نورد مقولة أخرى لمارتن جاك، الذي تراوده الثقة بأن الغرب لا يفهم الصين. ويمكن القول في هذه الحالة إن الغرب يتفهم العالمين العربي والإسلامي. يعتقد جاك أن الدول الأوروبية تلج أكثر نحو التهميش، بينما يشير إلى احتمال ذهاب أميركا إلى انحطاط، وتصبح الأمم النامية اللاعبين الدوليين الرئيسيين، وستحل الصين محل الولايات المتحدة بصفتها الدولة القيادية في العالم. ويكفل ذلك النمو الاقتصادي العام لهذه الدولة خلال أكثر من 30 عاماً، والنمو العاصف لمكانتها الدولية.
وثمة أوجه شبه بين روسيا والصين (فكلتاهما «دولة – حضارة»)، كما توجد أوجه اختلاف بينهما. وإذا ما كانت المشكلة التي تواجه روسيا وتتطلب معالجات خاصة والبحث عن الحلول، هي اتساع رقعة أراضيها، فإن مشكلة الصين (وكذلك الهند) هي كثرة عدد سكانها. لكن الدور الوظيفي لهذه وغيرها من الخصائص اللازمة من أجل تحديد الهوية الحضارية هو واحد في جوهر الأمر.
ربما أن التاريخ نفسه يقرّب روسيا من تركيا، ويخفف من حدة الخلافات السياسية بينهما، ويطرح في المقدمة تقاربهما الحضاري، لا سيما أن عدداً كبيراً من سكان روسيا ينتمون إلى العرق التركي، وأغلبهم من المسلمين.
* خاص بـ«الشرق الأوسط»