تفجير الديمقراطية: من المتهم ؟
سالم العوكلي
تفجير مبنى مفوضية الانتخابات جريمة أخرى في سلسلة الجرائم التي تحاول أن تحبط العملية الديمقراطية في ليبيا، بل وتعمل على إحباطها بالكامل كنتاج لأهم ما حدث في هذه المنطقة وهي ثورات الربيع العربي. يحمل مثل هذا التفجير رسالة واضحة ورمزية لنبذ فكرة الانتخابات من أساسها، وهي فكرة شائعة إلى حد كبير بين الكثير من القطاعات المسماة سياسية أو القطاعات المسلحة أوحتى من الجمهور.
ستذهب هذه الجريمة كغيرها من الجرائم التي وقعت في كل مكان من هذا الوطن طي النسيان، والنتائج دائما أشلاء وضحايا، ثكالى وأرامل ويتامى، وجراح عميقة في البنيان الاجتماعي، ولا تحقيق ولا محاكمات ولا عقاب لأحد، بل أننا لم نر حتى الآن أي نتائج من قبل اللجان التي شكلت للتحقيق في كل الجرائم، وكأن تشكيل اللجان مجرد مسكن ألم مؤقت لأنهم يدركون أن ثمة جريمة قادمة ستنسي الجميع هذه الجريمة، وتنسيهم اللجان التي شكلت من أجلها، وتنسيهم نتائج التحقيق، وتنسيهم المكافآت التي أجزيت لهذه اللجان مقابل عملها التي لم تقم به أصلا، مثلما آلاف النواب وأعضاء المجالس التشريعية والحكومات وموظفيها يتقاضون الملايين المملينة دون أن يقدموا شيئا مقابل ما يتقاضونه، بل أن من يعملون فعلا في هذا الوطن، مثل عمال الكهرباء، أو العاملين في المستشفيات والمستوصفات في أصعب الظروف، أو عمال المطافئ، أو العاملين في أجهزة البيئة، لا يتقاضون مرتباتهم الشحيحة رغم العرق والخطر والإصرار على مواصلة العمل . لا عجب في ذلك لأن العلاقات الظالمة جزء من بنية هذا الكيان منذ عقود لدرجة أن الناس تعودت على الظلم وما عادت تشتكي منه ولا عادت تأبه، وكأنه عقاب إلهي أو تكفير عن خطايا .
هذه المرة وأمام هذا التفجير قررت أن أفكر مثل أي محلل يتابع الأخبار العاجلة ويحاول أن يُعمل الحدس ويتتبع خيوط الجريمة عبر تحليل مبدئي لطبيعتها ولتوقيتها ولمن يمكن أن يكون وراءها .
وطرحت السؤال المبدئي : من المستفيد من هذا التفجير؟ أو من الذي ليس في صالحه أن تقوم انتخابات في ليبيا؟ وبدأت اقترح إجاباتي حسب متابعتي لما يحدث طيلة هذه السنوات ووفق حصيلة انشغالي بالشأن العام للدرجة التي ينطبق علي توصيف “مهتم بالشأن العام” الذي نراه مع تلك الأسماء التي تتحدث طول الوقت في الفضائيات، وهو توصيف يدل على أن صاحبنا الذي من الممكن أن يتحدث لساعتين لا اختصاص له في كل ما يقول، وهو مجرد شخص هاو متنكر في هيأة الاهتمام بالشأن العام وهو يتحدث في الواقع عن شأنه الخاص جدا.
طرحت السؤال فظهرت أمامي طوابير وكتل وجموع من الذين لا يريدون انتخابات في ليبيا، أو ليس في صالحهم أن تقوم دولة مدنية موحدة:
ــ أعضاء مجلس النواب المنتهية ولايته، وأعضاء مجلس الدولة الاستشاري الفارض نفسه غصبا عن الليبيين، وبقايا أعضاء المؤتمر الوطني المتشبثين بكراسيهم من أيام أوباما وساركوزي وبرلسكوني الذين انتهت ولاياتهم وتركوا كراسيهم.
ـــ الوزراء في المجالس الوزارية في الغرب والشرق ووكلائهم وموظفي الوزارات وكل كوادرهم . ويضاف إلى أولئك عائلاتهم وأصدقائهم وكل المستفيدين من استمرار تواجدهم في مناصبهم .
ــ الإسلامويون الذي حاولوا اللعب في منطقة الانتخابات ثم أدركوا أن المسار الديمقراطي سيقصيهم لأنهم وفق عقيدتهم يقصون الديمقراطية كمبدأ.
ــ الإعلاميون المطبلون لكل هؤلاء، والمستشارون، والعشيقات أو العشاق، وأصحاب الشركات والمقاولون المتعاملون معهم .
ـــ شلل المصارف المركزية وما يتبعها ومجالس إداراتها ومن يتبعهم أو من يتبعوه .
ــ الفيدراليون المعترضون على انتخابات وفق دستور لا يريدونه وعاصمة لا يعترفون بها.
ــ الميليشيات وأمراء الحرب وداعموهم من الساسة ورجال الأعمال والقتلة المأجورون .
ــ مهندسو التفويضات والمطالبون بالحكم العسكري والحانون إلى النظام القديم.
ــ مهربو الشر والوقود والأنعام والسيارات والمخدرات والآثار والسلاحف والثعابين والنحاس.
ــ المهاجرون غير الشرعيين المتواجدون على الأرض الليبية .
ــ التجار الذين يتعاملون بالفوائد على الصكوك، الكبار منهم والصغار.
ــ تجار الفحم الذين أبادوا الغابة وعلبوها في أكياس
ــ المغتصبون لأملاك الدولة والشواطئ ولأملاك النازحين والمنفيين .
ــ المرتشون في كل الإدارات والمرافق والفاسدون الذين يتاجرون في قوت الناس والمختلسون ومن يدور في دوائرهم .
كل هؤلاء مستفيدون من استمرار الأوضاع الراهنة وأي تغيير أو انفراج كابوس لهم، فمن تبقى فعلا ممن يستفيدون حقا من وجود مفوضية انتخابات تسعى لمشاركة الناس في تقرير مصيرهم؟ .أكاد أن اسمي بالاسم من مازالوا متمسكين بالانتخابات والمسار الديمقراطي في ظل هذا التلوث، أو التلويث، التي تعرضت له التجربة من بدايتها .
أما على المستوى الدولي والإقليمي:
ــ فثمة قوى لا تريد الاستقرار لليبيا ولا التحول الديمقراطي في ليبيا ولمنطقة، وشركات تحتاج إلى أسواق رائجة للسلاح والذخائر والسلع والأدوية المغشوشة أو منتهية الصلاحية أو المقلدة، قوى كبرى تغني يوميا على الديمقراطية لكنها تضرب كل مشروع ديمقراطي في مقتل، وتدعم الطغاة الجدد كما دعمت الطغاة السابقين.
ــ قوى إقليمية لا تريد لفكرة الديمقراطية في المنطقة أن تنجح لأنها تهدد عروشها، ولا تريد لحدودها أن تهدأ لأنها تكتسب شرعيتها من إيهام المواطنين بأنها من يحافظ على الأمن القومي المهدد، وأنها في غمرة الحرب على الإرهاب لا وقت للديمقراطية أو الشرعية أو حقوق الإنسان أو حرية التعبير، مثلما بحجة مكافحة الاستعمار والصهيونية والعمل على تحرير فلسطين حكمتنا نظم الاستبداد السابقة لعقود وبذريعة أن لا وقت لديها للإصلاح أو الديمقراطية أو التنمية أو حقوق الإنسان.
ــ المهاجرون غير الشرعيين في جنوب الصحراء الذي مازالوا يجهزون أنفسهم لعبور الأرض الليبية صوب أوروبا، الفردوس الموعود.
ــ أصحاب الفنادق الفخمة في عواصم العالم الذين يتهاطل عليهم المسؤولون الليبيون وسواح المؤتمرات.
ـــ المستشفيات والعيادات في الدول الشقيقة التي تستثمر في جرحى ومصابي الحروب الليبية ، وفي المرضى الذين لا يجدون الشاش أو الحقن أو المخدر أو الأسرّة في مستشفيات وطنهم .
هل نسيت أحدا ؟ بالتأكيد، ولكن القارئ الحصيف سيضيف من تلقاء نفسه من يراه، وقد يستغرب أني لم اتطرق إلى الإرهاب ، لأن داعش التي أعلنت مسؤوليتها فيما بعد هي نتاج لكل هؤلاء، ولا تختلف عنهم سوى بكونها تعلن رسميا عن رفضها للديمقراطية وكل ملحقاتها.
فهل عدنا إلى سنوات الجمر السابقة حيث كانت القلة من المثقفين والمهتمين فعلا بالشأن العام هم من يطرحون أسئلة الديمقراطية والحقوق والمواطنة وحرية التعبير والأحزاب والانتخابات في جلساتهم الخاصة، عندما كانت كل هذه المصطلحات مكفرة في العقيدة الجماهيرية وما قبلها؟
وهل تحولت فكرة الديمقراطية بعد هذه السنين العجاف إلى بعبع يخيف الجماهير مثلما كان يخيف سابقا قائد الجماهير ونظامه الفاشي الذي اعتبر التمثيل تدجيلا والأحزاب خيانة وحقوق الإنسان تغريبا وحرية التعبير إسفافا.
ستسجل الجريمة مثل غيرها ضد مجهول أمام هذا الحشد الكبير من المستفيدين منها محليا وخارجيا. هذا “المجهول” الذي أصبح الحاكم الفعلي لليبيا حتى إشعار آخر.