تعسف التاريخ ..!
عبدالواحد حركات
صفدت أفكارنا بأغلال تاريخية معيبة..!
إن فتات اليقين الذي يحتويه تاريخنا، لم يفلح في وضع أساسات ثقافة – غير سليبة- أو يؤكد هوية مؤهلة للبقاء والتلاقح،مدججة بالإنسانية والتعايش والرقي..!
عموماً.. التاريخ ينشب مخالبه في عصب الفكر بحسد وحقد، يملي عليه اتجاهاته ويمازج بناه، ويقحمه ويقتحمه، ويؤثر فيه ويعيبه أكثر مما يعينه، ويخالطه أو يحتويه ويحل فيه، ويؤثثه بأصنام ومقدسات مسبقة، أو يوجهه وفي الأقصى يكونه ويتقمصه عند النوستالوجيين، فعلاقة التاريخ بالفكر مربكة، وتأثيره عليه مستمر، وهو يعكر صفاء الفكر، ويزج به قهراً في بقاع تاريخية ملوثة بشذرات الوهم والأكاذيب، ويجبره على الانحناء أمام قيم أو مسلمات تقليدية غير منقحة وخالية من أي فلسفة أو منطق..!
التاريخ أزمة تتفاقم وتتسع وتنال بحوافها عموم الثقافة، وتتسرب إلى القضايا الاجتماعية والسياسية اليومية الحاضرة بسلاسة فاضحة فتنغصها وتسدها، فعادة ما يُؤخذ– التاريخ- على أنه كيان المعرفة الحقيقية الأثير الصدوق، محل التقديس ومسكن النوابغ والفوارس والأطهار، ويصبح عامه– التاريخ العام – المتناثر بفوضى وعبث حجة ومعرفة يشهرها غير المثقفون وغيرالمؤرخون، لتأكيد قناعاتهم وتبرير رؤاهم ومواقفهم دون منطق.
الانزلاق في تشويه التاريخ وشيوع الاستخدام العشوائي للتاريخ العام، المأخوذ من الأفلام السينمائية والروايات الشعبية والتلفزيون، ذلك التاريخ الغير منضبط، الذي لم يصنعه ويحققه المؤرخون الحقيقيون، ولم ينبثق من الوثائق والمناهج البحثية، والذي يسهم بشكل كبير في تشويه الهويات وتأطير الثقافات وتسويرها وربما غلقها أو تلويثها، ذلك التاريخ العام المشوه والمسوق لأغراض اجتماعية وسلطوية يخضع للأدلجة ويصب في قوالب ذاتية خادعة، وتعاد صياغته وهندسته وتأويله كل حين، حتى صار بلاءً قائماً وعائقاً طبيعياً ضد أي تطوير أو تقدم أو انفتاح..!
الحقيقة أن التاريخ مازال يكتب بطريقة ما،وتصاغ أحداثه الماضية وتفبرك تفاصيلها الغير موثقة، وتصب في قوالب حديثة تحريفية، ليصبح وقود صراعات سياسية واجتماعية، ويوزع كسلعة استهلاكية عبر السينما والمسرح والتلفزيون والروايات والصحف وحتى الإعلانات لغايات فاسدة، فالتاريخ العام استهلاكي في المقام الأول وهو متجدد بالضرورة..!
إن التاريخ مصنوع من الوثائق والأفكار،والخيال والأماني والأكاذيب، وليس من الذاكرة الحقيقية فقط، أو من أحداث الماضي اليقينية، بل من تلاقح اليقين باللايقين، وتداخل الحقيقة بالأكاذيب، ومن كليشيهات شائعة لأوهام وخيالات ورؤى لذيذة، وبات الوضع أسوأ في غياب الانضباط التاريخي، وانحطاط الثقافة، وتدهور الفنون، وتعميم المعرفة، وطغيان التكنولوجيا، وتدنس السياسة، وتحولت مناقشة التاريخ إلى أعادة كتابة ودبلجة غائية لا أخلاقية..!
لا توجد أصول حقيقية للتاريخ، وبالكاد يوجد تاريخ تسكنه الحقيقة، إذ صيغ التاريخ عموماً في وقت متأخر عن حدوث أحداثه، واحتوى شوائب اللايقين باكراً، فبات تراكمه مواز لتراكم الأخطاء والهفوات والأكاذيب، التي اعتمدها وكلاء التاريخ وأباحوها، فسرت وغذت بالتقادم حقائق لها قدسيتها مضادة للنقض أو التحليل أو النقد..!
الحاجة تزداد لبروز طلائع من المثقفين – المنتجين حصراً- جادة لإعادة هيكلة الثقافة عموماً، واكتشاف التاريخ وتحقيق أحداثه، وصياغته وفق مناهج علمية وبحثية صارمة، وتسطيره بحيادية وليس أسطرته بهوى ضرورات تحتمها التغيرات وتمليها وقائع الحاضر، فليس التاريخ الذي نستهلكه بريئاً مما يشتعل بيننا من صراعات، وما يشب فينا من جاهلية، وما يحيق بنا من تطرف ودمار وفاشية..!
التاريخ الذي نقتاته متعسف، لازال فحيحه يملأ الأرجاء، ودوابه تنكأ الجراح وتحشد الضغائن، وتهيج النفوس، وتزرع البغض، وترفع الجهلاء، وتوقظ كل صباح بسوس، وكل مساء داحس وغبراء، لتبيت على كربلاء وقت المغيب وسط عواء الشراسة والكراهية والثأرات..!