تطلعات شبابية.. نحو صناعة إدارة رائدة
أحمد عبدالحميد المجدوب
كانت الدول في غابر الأزمان (بيروقراطية أو بسيطة) تنشأ عبر استأثار عصبة بالأمر والنهي وبسن القوانين والمراسيم المنظمة للأمور المالية الضريبية والعسكرية والإدارية والقضائية، وبطبيعَةِ الاستئثار ومركز السُّلَطْ الثلاث لدى عصبة -كما سبق القول- تثرى هذه المجموعة على حساب خزانة الدولة ويثرى أبناؤها بهذا الثراء، فيخدمهم الرقيق والجواري في كل احتياجاتهم وبذلك لن يكونوا مضطرين لبذل جهد لتدبير شؤون حياتهم فلن تتطلب حياتهم أية شجاعة ولا قوة بدنية ولا تحصيل العلوم إلا اللهم بعض القدرات العقلية التي تلزم للتغلب على ما يحاك من مكائدٍ، فحسب أدراكهم كل شيء متاح. ثم يأتي جيل آخر الذي ولد في بيوت المخنثين الضِّعاف فيكون حاله أسوء من سابقه إلى أن تصل الدولة إلى جيل لم يعرف من حياة وطبائع الأجداد إلا النزر اليسير، فبعد اللهب الجمر وما بعد النار إلا الرماد. ثم تكون المساحة مفتوحة أمام جماعة أخرى فتزيل ما تبقى من العصبة الأولى وهكذا دواليك.
ويُرجع ابن خلدون في نظريته هذه العصب إلى البادية وما تحدثه طبيعتها من الحاجة للقوة البدنية والصبر والفراسة وتنظيم الغزو والإحتراز منه، وغير سهولة إنجاز مشروع القيادة عبر تسليمها لشيخ القبيلة، وكل ذلك يؤهل أبناءها لأن يؤسسوا العصبة التي تذعن لها الحواضر وتسلّم لها بالسيادة.
المهم في السرد السابق هو مدى تأثير الواقع الإجتماعي وطبيعة الحياة اليومية في تنشئة الجماعات داخل المجتمع ومدى أثره المادي والقانوني على النظام السياسي الحاكم والذي نسميه عاميّاً (الدولة).
وخلال الرحلة البشرية التاريخية ظهرت عدة أسئلة كنتيجة لصراعاتها وتفكُّراتها، منها ما يدور حول (الحق، السيادة، الحكم، توزيع الثروات (العادل) ، الدِّين ودوره) غيرها من الأسئلة.
وانطلاقاً من حتمية الصراع والتدافع، وإنطلاقا من الحاجة الملحة لوجود الدولة والمحافظة عليها درأ لأي فراغ يعرض المكتسبات والمنجزات للضياع، برز سؤال : كيف نصنع نظام سياسي لا يموت ولا يمرض قادر على تغيير طبيعة الصراعات الحتمية بين فئات المجتمع [الإقتصادية والسياسية والقبلية والعرقية والثقافية …] من صراعات دموية إلى تدافع سلمي وداخل أُطُر قانونية واقتصادية وسياسية ومعرفية؟
تطورت الإجابات عبر الزمن وظروفه حتى وصلت إلى النظام السياسي المعاصر والذي حاول أن يحل مسألة الشرعية بأن جعل هدف الهيئة الحاكمة الأساسي حماية المجتمع وأفراده وتوفير سبل رفاههم بتصريف القوة عبر هياكل ونظم معقدة إلى حد كبير، ولكن كيف نجعل هذا النظام لا يموت ولا يمرض؟
لنقترب من الإجابة على هذا السؤال نحتاج أن نخوض في بعض الأفكار منها:
يقول د.ديفد إستون (أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو) مُدخل نظرية النظم إلى العلوم السياسية أن النظام السياسي هو كل ما يتعلق بإنجاز القوانين والقرارات في المجتمع، كل الهياكل حتى الغير قانونية منها، كل مَنْ مِنْ شأنه أن يحدث ضغطا مميزا بين المطالب والرغباتْ؛ حيث الرغبات هي التي لا تحدث ضغطا تسعى السلطة لإخماده عبر قمعه أو الإستجابة له، ويشير في هذا الصدد أن الهدف الأسمى لأي نظام سياسي هو ضمان الوجود والإستقرار عبر قدرته الدائمة على إنتاج القيم (القرارات والقوانين) وقدرته على الزام البيئات المحيطة الداخلية والخارجية بها، وربما التنمية وتطوير قدرته وإدارته كيفا وكماً لتزيد قدرته على التعامل مع الحركات المطلبية بشكل أكفأ، وتصل إلى المدى الحرج عندما تعجز فتنهار.
ويقول البروفيسور صمويل هانتنغتون الأستاذ في جامعة هارفرد أن المؤسسات السياسية المسيطرة في المجتمع والمعبرة عن تنظيمات إجتماعية والتي تهدف للقيام بوظائف محددة، يقع على عاتقها القيام بمسؤوليتين (مركزة سلطة الحكومة، زيادة الحجم الكلي للموارد) للتعامل مع مطالب الجماعات المختلفة في المجتمع وإلا انهارت واضمحلت وعمت الفوضى والصراع الدموي بين المطالب المتضادة في المجتمع، إلا أنه يضع أربعة معايير للمؤسسات: (التكيف، التعقيد، الاستقلالية، التماسك).
-التكيف (القدرة على التأقلم مع الظروف الخارجية المختلفة واستيعاب ذلك داخلياً) وله مقاييس ثلاث:
1.العمر الزمني الكلي للمؤسسة .
2.العمر الوظيفي (سلاسة الخلافة في الوظائف وتبادل الأدوار والسُّلَطْ).
3.العمر الجيلي (سلاسة تبادل الوظائف والمسؤوليات بين الأجيال القديمة والجديدة).
-التعقيد، فكل ما زاد تراكب والتشعب والتشابك بين أطراف المؤسسة كل ما زادت قيمتها مؤسساتياً، وصعُبَتْ عملية تفسخ روابطها.
-الاستقلالية، أي استقلالية المؤسسة عن أعضائها وعن التنظيمات والمؤسسات الأخرى (القبلية الحزبية المصلحية) وأنماطها السلوكية.
-التماسك والترابط الداخلي ووضوح آليات حل الخلافات واستيعاب الاصطدامات ومدى احتياج أطرافها المختلفة إلى الأطراف الأخرى.
وكل ما زاد تقييم المؤسسة السياسية ومعايرتها للنقاط السابق ذكرها كلما زادت قيمتها مؤسساتياً وزادت قدرتها على البقاء وخدمة أهدافها بدون الاعتماد على طرف محدد (شخص، جماعة، حزب، تيار، قبيلة أو جيل إلخ …).
وعند تقييم حالتنا الليبية التي ما إن غادرت الإستحلاب العثماني الإقطاعي لترزح تحت الاستعمار الإيطالي والإنجليزي التي أفادت منهما بعض البنية التحتية والنظم الإدارية، ثم إلى ملكية لا تعرف التعدد ولا الفصل بين السلطات، ثم إلى اشتراكية شمولية دكتاتورية، فتصبّغت إداراتها بالخلفيات الثقافية والاجتماعية لتلك السلط وبطبيعة الحال ألقت بظلالها على النظم الاجتماعية والمعايير الأخلاقية تجليا واضحاً لمقولة (ولع المغلوب بتقليد الغالب) فمسيرة التنمية (النظمية، المؤسساتية) لم تجد بيئتها السياسية والإقتصادية بل حتى المعرفية بعد.
ومن المعروف لدى العامة والخاصة أن ليبيا تعاني من أحادية في القطاع الاقتصادي الوطني وهو نشاط استخراجي تملكه وتقوم عليه الدولة عبر مؤسستِها الوطنية للنفط (97.7% 2010)، ولا خيار أمام الدولة للاستجابةً لمطالب الوافدين لسوق العمل غير تكديسهم في الملاك الاداري للدولة الليبية (84.3% من إجمالي العاملين 2012) والذي أوصى برنامج تقاسم المعرفة الكوري (KSP 2009 مع ليبيا ) بأن لا يتجاوز 80 موظف حكومي لكل 1000 من السكان (8%)؛ الذي أثقلَ ميزانية المرتبات وأدى إلى رجحانها بين أبواب الميزانية الأربعة لحكومات ليبيا المتعاقبة، فهو الأمان الوظيفي الوحيد للشاب الطامح في تكوين أسرة أو تحقيق بعض الأحلام والطموحات المسروقة، حيث أن القطاع الخاص يتسم بعدم الاستقرار في ظل عدم وجود سياسة عامة داعمة للقطاع الخاص ومنشطة له، ومحفزة لإنتاجه.
فالقطاع الخاص يكتفي بما نسبته (14.4% 2012) وهو في غالبه تجاري وخدمي وبعضه إنتاج زراعي وصناعي أولي، وكل ذلك يقتات على ما تنفقه الدولة في ميزانياتها وخصوصا بند المرتبات، فالتصدير معدوم بسبب أن الحركة إنتاج السلع ضعيفة جداً لانخفاض الميزة التنافسية – من حيث الجودة أو السعر – أمام المنتجات المستوردة وعدم وجود سياسات حمائية توفر للمنتج الليبي فرص البيع داخلياً، مما يساهم في تنامي حصة قطاع الإنتاج، ويمهد لحركة تصديرية في مرحلة لاحقة، والتي تعني بداية للانفراج في إشكال أحادية القطاع الاقتصادي، وبالتالي تغير نظرة الأفراد إلى العمل الحكومي على أنه الأمان الوظيفي الوحيد.
ومن بارز ما ينبغي الإشارة إليه هو أن (واقع توزيع الاستخدام حسب اقسام النشاط القائم حاليا لا زال متأثرا إلى حد كبير بالنظام الاقتصادي الذي كان قائما في عقدي الثمانينات والتسعينيات حيث سيطرت القطاع العام وكذلك بسياسة التوظيف القائمة على نهج التوظيف الاجتماعي وأيضا بالقيم والثقافة الاجتماعية للمجتمع الليبي الذي لا يقبل على امتهان الحرفية واليدوية بالنسبة للرجال وتوجهات المرأة للعمل بقطاعات التعليم والصحة والإدارة العامة وبالقرب من مكان سكنها كل هذه العوامل لازالت مسيطرة على نمط توزيع الاستخدام حسب أقسام النشاط الاقتصادي) في إشارة إلى مخلفات الثقافة البدوية حسب ما جاء نصاً في مسح التشغيل والبطالة 2012.
وبسبب أحادية القطاع الاقتصادي وضعف القطاع الخاص وأيضاً ضمور وانزواء النوادي الاجتماعية (الرياضية، الثقافية، العلمية، الفنية) تظهر مشكلة اجتماعية أخرى وهي عدم وجود سلالم للصعود اجتماعياً غير التسلق إلى أعلى هرم السلطة، فالقطاع الاقتصادي والأوساط الثقافية والعلمية والفنية والرياضية تصنع محك يصطدم به الشاب الطموح بطبعه ويتصارع معه للوصول إلى أعلى المراتب فيه عبر إنجازه للقيم المتعلقة بذلك المجال، وبعد ذلك يكون في مقدمته وصاحبَ حظوةٍ ومكانةٍ داخل ذاك النادي الاجتماعي، وإلى ذلك الحين يكون قد بلغ من القدرة والخبرة مبلغاً كبيراً، ويكون مستحقاً للتقدم لشغور منصب قيادي في الدولة وكفأً لأداء وظيفة عليا محددة، ومنهم من يأخذ منه ذلك الوقت الكثير ومنهم من يعبر برشاقة عبر مستويات تلك المِحَكّات المختلفة، وبذلك يكون مؤهلا كفؤا وشاباً في ذات الوقت.
وللدولة الليبية أولويات واحتياجات عدة في سبيل استدامة قدرتها على تأمين وجودها ابتداءً وتأمين استقرارها، منها ما يتعلق بتخليصها من أعبائها المالية، وإحالة الغير مفيدين لها من كادرها الاداري الى التقاعد، واحالة البعض الآخر إلى سوق القطاع الخاص بعد صنع بيئة داعمة ومشجعة، وتقوية اذرعها وقدرتها على فرض إرادتها، وتطويرها لآليات حل النزاع حول تبادل الأدوار وتوزيع القوى وحتى الاختصاصات أيضاً، وتقوية أجهزة تطهيرها من الفساد الإداري والمالي، وإنجازها للإطار التعاقدي مع المجتمع (الدستور) لتكسب الشرعية الأخلاقية والقانونية، وتخلصها من التبعية للقبيلة والعصابة والجماعة واللوبي وغير ذلك من المؤسسات المتداخلة التي تقتات عليها.
ومن الملاحظ ما يظهر علينا من حملات هنا وهناك، يتحدث باسم الشباب بعضها ويطالب بإشراك الشباب في العملية السياسية في بعضها الآخر، وكأن الانسداد السياسي والأمني سببه أن الشباب مُبعدين عن المناصب السياسية، وأقل ما يقال عن ذلك أنه مجانبة للصواب في تحليل الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
مطلب اشراك الشباب و(تمكينهم) مطلب مُلح ووطني فهو ضمان لاستدامة واستقرار الدولة، لكنه ليس مطلب حقوقي يرفعه الشباب عبر حملات وهاشتاقات تصنع من الانسداد الحاصل بسبب احتكار السلطة لدى فاسدين شياب فرصة لوصول فاسدين شباب، مطلب اشراك الشباب في الأصل ضرورة ملحة تخدم النظام السياسي والمؤسسات السياسية للدولة ولا تخدم الشباب، لتعزز العمر الجيلي داخل مؤسسة الدولة، وحجة عدم كفاية الشباب وضعف خبرتهم كلمة حق أريد بها باطل إلى حد كبير في اطار صراع القديم والجديد داخل النظام السياسي وأدواته الإدارية، ونزوع القديم الى المحافظة على غنائمه واستمراره في سرقة أحلام وطموحات الجديد.
عملية سد الفجوات ومنع الصعود، له عواقب وخيمة على استقرار المجتمع، حيث يصنع جموع من المقموعين المحبطين يكوّنون كيس الدّيناميت الذي ينتظر شرارة لانفجاره، وأيضاً تحصر عملية الدخول للمنظومة على المتشابه والتابع، وبذلك تتعثر عملية إدخال دماء جديدة بأفكار جديدة وعقليات جديدة، مما يضعف قدرة المؤسسة على إدراك الواقع المحيط، وتصور العالم بشكله المعاصر.
وبلوغ الأكفاء من الشباب لقيادة تلك المؤسسات هو أيضاً تلبية لحاجة المؤسسات لقيادات طموحة ونشيطة، ومن ذلك يظهر احتياج إدارة الدولة ومكونات النظام السياسي لأن تتضمن آليات لإدخال الكوادر وآليات لإخراجها من المنظومة وفقاً لما يتطلب الإيفاء بالقدرة على استيعاب والإدارة القوى المختلفة وتنمية هذه القدرة كماً وكيفاً.
عجل الله لنا بيوم نفخر فيه بليبيا المؤسسات، ليبيا القانون تلك الكلمات ذات المعاني العظيمة التي صارت شعارات المبتذلة مكررة مستهلكة صرنا نرفقها بألفاظ حلحة وفكفكة ومماحكات، علّنا نصيد بها اهتماماً، أو نحصد بها مقعداً في اجتماع او مؤتمر.
المصادر:
1-المقدمة (عبد الرحمن ابن خلدون)
2-الفكر السياسي من أفلاطون إلى محمد عبده (د.حورية مجاهد)
3-David Easton,A systems analysis of political life,1967,
4-النظم السياسية العربية المعاصرة (د.عطا محمد صالح)
5-ملخص إحصاءات التجارة الخارجة 2010، صادر عن وزارة التخطيط – مصلحة الإحصاء والتعداد.
6-نتائج مسح التشغيل والبطالة 2012 صادر عن وزارة التخطيط – مصلحة الإحصاء والتعداد.
7-دراسة : التضخم الوظيفي وتداعياته وإمكانية معالجته (د.صالح دريرة)
8-المؤمن الصادق (إيريك هوفر)