تصدير الدولة الفاشلة
راشد صالح العريمي
«تصدير الثورة» هو أحد العقائد الراسخة في التجربة الإيرانية منذ العام 1979، وفكرة «عالمية الرسالة» من بين الأفكار المهيمنة على العقل السياسي الإيراني في العقود الأربعة الماضية، وهناك حضور بارز لهذه الفكرة في الدستور الإيراني، إذ تنص المادة 154 منه على التالي: «تعتبر جمهورية إيران الإسلامية سعادة الإنسان في المجتمع البشري كله قضية مقدسة لها، وتعتبر الاستقلال، والحرية، وإقامة حكومة الحق والعدل حقّاً لجميع الناس في أرجاء العالم كافة، وعليه فإن جمهورية إيران الإسلامية تدعم النضال المشروع للمستضعفين ضد المستكبرين في أي نقطة من العالم، وفي الوقت ذاته لا تتدخل في الشؤون الداخلية للشعوب الأخرى».
بعيداً من أن فكرة «عالمية الرسالة» السياسية عبثية من الأصل، ولم ينجح أي من تطبيقاتها، وعن أن إمكانات إيران -بوصفها دولة- وارتكازها الطائفي لا الإنساني، يفرغها من المضمون، وعن التناقض الغريب بين الاعتراف الصريح بضرورة التدخل في الدول الأخرى، في حين أن الجملة ذاتها تدعي أن إيران لا تتدخل، يمكن أن نتوقف عند مفارقة مضحكة، وهي أن الدولة التي تعتبر سعادة الإنسان في العالم قضية مقدسة، حلت في المرتبة الرقم 106 في مؤشر السعادة العالمي للعام الحالي، بمعنى أن ما نجحت فيه هو تقديم درجة عالية من «التعاسة» لشعبها، فماذا لديها إذاً لتقدمه لأي دولة من دول العالم؟
ربما تبدو المفارقة أكبر إذا علمنا أن دولة مثل الإمارات العربية المتحدة تسبق إيران بنحو ثمانين مرتبة في هذا المؤشر، وأن المملكة العربية السعودية تسبقها بأكثر من سبعين مرتبة، وأن دولة مثل البحرين التي تحظى بأكبر مقدار من محاولات تصدير «التعاسة» الإيرانية تسبق إيران بخمس وستين مرتبة.
ما تحاول إيران تصديره إلى دول الخليج مثلاً، هو المخدرات، وهذا منطقي في دولة تُعتبر مركزاً لتجارة المخدرات، ويعاني نحو ستة ملايين من سكانها من إدمان المخدرات، وفق تقديرات دولية. والكميات المضبوطة من إيران هائلة، ففي آذار (مارس) 2012 ضبطت السلطات السعودية نصف طن من الحشيش من إيران. وفي نيسان (أبريل) 2014 ضبطت السلطات الكويتية 22 مليون قرص مُخدِّر آتية من إيران للتوزيع في دول الخليج. وفي الخامس من الشهر عينه، قال عمر الحميري، وهو محافظ سابق لمحافظة ديالى العراقية، إن 90 في المئة من المخدرات التي تدخل العراق مصدرها إيران. وبعدها بأربعة شهور، ضبطت السلطات الكويتية خمسة ملايين قرص مخدر حاولت تهريبها شبكة إيرانية.
ما تحاول إيران تصديره هو التراجع الاقتصادي. لقد حباها الله بثروة نفطية هائلة، ورقعة جغرافية واسعة تحفل بالأراضي الصالحة للزراعة والمعادن والثروات الطبيعية ومصادر المياه، وطاقة بشرية معظمها من الشباب، وتجربة سابقة طويلة في التعليم والتمدن والتحضر. ومع ذلك يعيش نحو 15 مليون إيراني تحت خط الفقر. ويفيد تقرير لـ «يونيسيف» صدر في نيسان (أبريل) 2015، بأن إيران من بين أسوأ الدول من حيث نسب التسرب من التعليم الثانوي في منطقة الشرق الأوسط، إذ تحل في ذيل القائمة. وجزء كبير من هذا التسرب مرجعه لاضطرار كثير من الطلاب في هذه السن المبكرة إلى العمل لرعاية أسرهم التي يضربها العوز والفاقة. فهل هذا النموذج هو ما تحاول إيران تصديره لمحيطها وللعالم؟
هل تريد إيران، مثلاً، تصدير نموذجها في حقوق الإنسان والحريات والعدالة؟ لقد اختصر تقرير «منظمة العفو الدولية» 2015- 2016 الوضع في إيران بقوله: «قلصت السلطات في شدة حقوق حرية التعبير وتكوين الجمعيات والتجمع، فاعتقلت وحبست الصحافيين والمدافعين عن حقوق الإنسان والنقابيين وغيرهم ممن جاهروا بالمعارضة بتهم فضفاضة وغامضة. وظل التعذيب وغيره من ضروب سوء المعاملة ضد المعتقلين أمراً معتاداً مع إفلات مرتكبيه من العقاب، وكانت أحوال السجون قاسية. واستمرت المحاكمات غير العادلة في بعض القضايا، ما أدى إلى صدور أحكام بالإعدام. وواجه النساء وأفراد الأقليات العرقية والدينية تفشي التمييز في القانون وفي الممارسة العملية. نفذت السلطات عقوبات قاسية، بما في ذلك سمل العيون وبتر الأطراف والجلد. وفرضت المحاكم أحكام الإعدام على مجموعة من الجرائم، وأعدم كثير من السجناء، بينهم أربعة أحداث جانحون على الأقل».
وفي شهادة أخرى، قالت سارة ليا ويتسون رئيس قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في «هيومن رايتس ووتش» في تقرير صدر عن المنظمة الحقوقية في الثامن من آب (أغسطس) 2016: «من العار أن تفتخر إيران بالإعدامات المتزايدة التي تنفذها بدل قدرتها على الالتزام بالمعايير الدولية للمحاكمة العادلة. ومن المهم إعطاء كل متهم الإجراءات القانونية والمحاكمة العادلة، ولاسيما عندما تكون حياته على المحك».
في الرابع عشر من الشهر الماضي تم إغلاق المدارس الابتدائية في طهران أياماً، بعد فترة قليلة من بدء العام الدراسي، لا لكارثة طبيعية أو لحادثة غير اعتيادية، بل لأن معدلات التلوث في العاصمة التي يزيد عدد سكانها مع الضواحي على 14 مليون نسمة، ارتفعت إلى حدود عالية جداً طيلة أسبوع. ومعدل تلوث الهواء في طهران يبلغ 156 ميكروغراماً من الجزيئات الدقيقة «بي إم 2.5» في المتر المكعب، و232 ميكروغراماً في شمال شرقيها، في حين أن المعدل الذي توصي به منظمة الصحة العالمية لا يتجاوز 25 ميكروغراماً. ويعني ذلك أن 14 مليون إنسان يتعرضون لأشكال مختلفة من الأمراض الناجمة عن التلوث، وأن المرض قدر لا فكاك منه في العاصمة، التي يريد حكامها أن يصدِّروا نموذجهم إلى العالم.
السياسة الخارجية لإيران بدورها آخر ما يمكن تصديره لدولة تريد أن تتقدم وتتطور، فالأزمات المستمرة مع العالم هي السمة المميزة لها. ومنذ العام 1979، فإن إيران من بين أكثر الدول التي تتبع سياسة حافة الهاوية في علاقاتها بالقوى الإقليمية والعالمية، وهي تُصنف عادة مع كوريا الشمالية في إثارة الأزمات والمواجهات بينها وبين المجتمع الدولي. وفي جوارها العربي، فإن علاقاتها مع معظم الدول العربية مقطوعة أو متوترة نتيجة التدخلات المستمرة والاستفزازات التي لا تتوقف والرغبة في السيطرة والهيمنة ودعم الفوضى والجماعات الإرهابية وإذكاء الحس الطائفي المدمر بغية اختراق الدول والمجتمعات العربية. وما تدخلها في سورية ودورها في الجرائم الفظيعة ضد المدنيين في حلب، إلا جزء من مخططاتها البشعة للمنطقة، إذ لم تقتصر وقاحتها على التباهي بانتصاراتها على شعب أعزل، بل هددت على لسان أحد قادتها العسكريين بأنها ستتابع «جرائمها» في البحرين واليمن.
نستطيع إيراد أمثلة لا تنتهي، ومن مجالات شتى، تصل بنا إلى النتيجة ذاتها، وهي أن إيران يمكنها فقط تصدير الإخفاق والبؤس والتوتر والصراعات والكراهية في كل مكان تطاوله يدها. هي فقط تستطيع تصدير نموذج الدولة الفاشلة القامعة، الدولة الطائفية التي تميز بين مواطنيها ولا توفر لهم أدنى درجات العدالة، ولا تُعنى بصحتهم أو تعليمهم، ولا تتردد في التعذيب وبتر الأطراف وسمل العيون، ولا توفر فرصة للمحاكمة العادلة، ولا تعترف للإنسان بحرياته وحقوقه التي تُنتهك في شكل منهجي. إيران تستطيع فقط أن تصدر نموذجاً لدولة متصدعة تتحكم بها الميليشيات وتمزقها الصراعات والحروب الأهلية، كما تفعل في لبنان والعراق وسورية واليمن، فهل هناك من يود فعلاً أن يستورد هذا النموذج؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة “الحياة” اللندنية