تشريد تاورغاء إلى متى ؟!
عبدالوهاب قرينقو
أتابع هذه الأيام عشرات التقارير التي تبثها قناة 218 لهبَّةٍ ليبيةٍ وفزعةٍ وطنيةٍ صادقةٍ لإغاثةِ أهلِ تاورغاء من أطفالٍ وشيوخٍ ونساء في مخيماتهم المهترئة المُهينة المنتشرة في ربوع ليبيا الجريحة. مخيمات يمكن أن نصفها بالمعتقلات، ولعل المعتقلات أرقى وأكثر راحة.
وصلت مؤخراً فيديوهات مؤثرة عن آخر قوافل الخير، حيث قام عدد من مؤسسات المجتمع المدني لمدينة غريان في الجبل الغربي بالتعاون مع المجلس البلدي ترهونة في بادرة إنسانية بتسيير قافلة مساعدات لنازحي مخيم تاورغاء الواقع جنوب مدينة ترهونة.
هو ذا التعاون على البر والإحسان في أبهى صوره، قافلة مساعدات سيرتها مؤسسات المجتمع المدني غريان بالتعاون مع المجلس البلدي ترهونة لدعم نازحي مخيم تاورغاء القابع في جنوبي ترهونة.
في قافلة الإغاثة كل ما يلزم النازحة والنازح من فرش وأغطية وملابس تبرع بها بها أهل مدينة غريان؛ والوفد المشرف علي قافلة الإغاثة قام بجولة داخل المخيم للاطلاع عن كثب علي المعاناة التي تعيشها الأسر التاورغية، ورافق الوفد في جولته عضوة المجلس البلدي ترهونة جميلة الحمروني .
في هذه الصور كلمات صادقة لنساء على أعلى درجات الاستحقاق في مناصب بلدياتهن، بل مكانهن في أعلى الوزارات. فسعاد الهنشيري عضوة المجلس البلدي غريان تتحدث للتلفزيون دون أن تخفي تأثرها وصدق مشاعرها : ( دخلنا الكامبوات اللي فيها سكان تاورغاء .. وهو سكن سيء جداً لا يليق ببشر .. وجدنا عائلة كاملة في غرفة واحدة دون أية خدمات صحية .. شيء مؤسف جداً أنقله لساسة ليبيا ) .
السيدة الهنشيري تضيف ما مؤدّاه : ( الليبيين اللي في بيوتهم وغير نازحين حتى هم يعانو .. أهل ليبيا يعانوا أزمات الكهرباء والماء والسيولة النقدية وتردي الصحة وليبيا تعيش مأساة كبيرة جداً والوضع إلى الأسوأ ) . وتنهي السيدة بمرارة ودموع : ( الله المستعان لاخوتنا نازحي تاورغاء وأطالب الساسة في ليبيا يتخلو عن هالكراسي ويشبحوا في ناسهم وين واصلين ووين وصل بيهم الحال .. ست سنوات من المعاناة ! .. الرجاء أنا بعد المشهد اللي شفته ماعادش نقدر نعبر للأسف يعني متأسفة جداً .. بجد رأيت ناس كبار وعجزة موش قادرين حتى على الكلام ) !
أما إحدى الشابات التاورغيات التي عَرَّفت نفسها بأنها ممرضة لم تكبح جماح غضبها من أجل حقوق تضيع وإهمال سافر حتى من قبل بعض أبناء تاورغاء ممن وصلوا إلى مناصب! : ( أنا ممرضة وقاعدة هنا في المخيم أستقبل المرضى في بيتي وأعلق لهم ابرة التغذية وكل الحاجات والمواد انحصل فيها من مستوصفات ترهونة اللي حتى هي تعاني وكل مدن ليبيا تعاني من تردي قطاع الصحة .. تحشمو على وجوهكم ياناس تاروغاء اللي في الصحة وعندي رسالة نوجهها إلى الشكشاك : الكرسي اللي امقعمز عليه موش ليك .. واللهِ أنا صح إمرأة لكن لو نمسك مكانك نوفر جميع ماتحتاجه تاورغاء في المخيمات .. وعندي كلمة أخيرة : ربي يحفظ ترهونة .. يحفظ أمنها وآمانها ).
لا بوادر لانفراجة تلوح في الأفق لوضع حد لمأساة تاورغاء
في ظل انقسامات حادة تشهدها البلاد ومسئوولين لا يفكرون
أبعد من كراسيهم، وليس من جدوى تذكر غير المبادرات الإنسانية والتبرعات.
ليبيون لاجئون لدى إخوتهم في ترهونة وغيرهم في طرابلس وبنغازي والعربان وبني وليد وضواحي سرت ومدن ليبية أخرى، ليس بسبب وجود مستعمر يحتل الأرض، طردهم أو فروا من بطشه ودمويته كما يحدث في فلسطين. ولم يأت هؤلاء النازحون من دول مجاورة لظلم حاق بهم أو محتل إقصائي إحلالي نال من أرضهم.
مأساة أهل تاورغاء المفعول بهم طرداً وتشريداً أن الفاعل ليبي آخر، وإن أخذ شكل مدينة أو شريحة من مدينة أو متنفذين من مدينة لا يرحمون ولا يريدون لرحمة الله أن تحل وتنزل على عباده الضعفاء. فإن كان جزء من شباب تاورغاء قد أخطأ أو أجرم لا يعني تعميم العقاب على كل سكان المدينة -“المُدعي والمدَّعى عليه”- وإلا ما بقت تجمعات سكانية لمدينة ما في مكانها، فكم من مظالم أثناء وبعد ثورة 17 فبراير وإلى تاريخ كتابة هذا المقال قد حلت ومازالت تحل!
أخبرونا، مَن لم يعتدِ على الآخر؟! إلا مارَحَمَ الله والأمثلة عديدة.
في منتصف يناير عام 1929 قام الغزاة الطليان الفاشيين بتهجير أهل مدينة هون وسط البلاد بالكامل، بترحيلهم القسري إلى الشمال وبقوا لعامين في مخيمات الاعتقال في مصراتة وفي الخمس عقاباً لأهل هون لمشاركتهم الفاعلة في معركة “قارة عافية” 31 أكتوبر 1928 وكون بلدتهم آنذاك قاعدة تموين وإمداد وتمويل وحتى تنظيم حربي لمجاهدي الوسط بقيادة عبدالجليل سيف النصر والشهيد قضوار السهولي. وكان التهجير العقاب الثاني في 18 نوفمبر 1928حين قام المحتل الفاشي بشنق 19 رجلاً من أبناء هون.
المقارنة هنا ليس بين أبطال الجهاد ضد المحتل الايطالي وبين جزء – وليس الكل – من تاورغاء الذين ناصروا النظام السابق، بل المقارنة هنا في العفو بعد التهجير.
أكرر: رجع أهل هون إلى مدينتهم بعد تهجير عامين وليس ستة أعوام!
فيا إخوتنا في مصراتة الشقيقة – التي نحترم تضحياتها وتضحيات كل المدن “في الثورة وفي تحرير سرت” – لا تجلعوا من الطليان الفاشست أرحم منكم على بني وطنكم .