ترمب يحارب نفسه!
عثمان ميرغني
لم يأت جون بولتون، مستشار الأمن القومي الأميركي السابق، بجديد عندما قال في كتابه الصادر قبل أيام «الغرفة التي شهدت الأحداث… مذكرات البيت الأبيض»، إنه لا توجد ملامح واضحة لأي عقيدة سياسية تحكم وتوجه سياسات الرئيس دونالد ترمب، وإن كل تفكيره منصب على شيء واحد، وهو كيف يفوز بولاية رئاسية ثانية في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. فقد كان واضحاً ومعروفاً منذ فترة طويلة أن الرئيس مسكون بفكرة البقاء في البيت الأبيض لفترة ثانية، والحديث عن نفسه باعتباره «أعظم» رئيس في تاريخ الولايات المتحدة.
وبحسب شهادة بولتون الذي غادر منصبه على خصومة مع الرئيس، مثل كل الذين سبقوه في الخروج عبر «الباب الدوار» في إدارة ترمب، فإنه «ليس هناك أي مبدأ يحكم سياساته، بخلاف ما هو جيد لإعادة انتخاب دونالد ترمب. لا يوجد أساس قوي، ولا إستراتيجية، ولا فلسفة. ويتم اتخاذ القرارات بطريقة فوضوية، لا سيما في مجال سياسة الأمن القومي».
ويذكر بولتون أنه منذ الأشهر الأولى لولاية ترمب، كان كل تركيزه منصباً مثلاً على سحب القوات الأميركية من الشرق الأوسط قبل موعد الانتخابات في نوفمبر 2020 «كي يستطيع أن يقول إنه الرئيس الذي أعاد القوات الأميركية إلى البلاد». وبسبب هذه النزعة قرر إعلان الانسحاب من سوريا بدون تفكير استراتيجي حول تداعيات ذلك، وبدون تنسيق مع حلفائه، كما جاء في الكتاب.
ويضيف مستشار الأمن القومي السابق أن «هذا الخلط والمزج بين المصالح الحكومية الشرعية ومصالح دونالد ترمب الشخصية حدث مراراً وتكراراً»، ومن تلك الحالات الضغوط التي مارسها الرئيس شخصياً وعبر موفدين على رئيس أوكرانيا لفتح تحقيق فساد ضد ابن منافسه الديمقراطي جو بايدن، ورهن التحقيقات بالإفراج عن مساعدات عسكرية لأوكرانيا. وكذلك مطالبة الرئيس الصيني شي جينبينغ، على هامش قمة أوساكا في صيف 2019، بشراء الكثير من فول الصويا والقمح من المزارعين الأميركيين، وهم لوبي قوي، لمساعدة ترمب على الفوز في انتخابات نوفمبر المقبل.
المشكلة لترمب أن سياسته الوحيدة الثابتة والمتمحورة حول أمل الفوز بولاية ثانية بدأت تتهاوى، وسط قناعة متزايدة وسط بعض المقربين منه بأنه يتجه نحو خسارة الانتخابات. فحسب موقع «بوليتيكو» الأميركي الإخباري فإن عدداً من هؤلاء المقربين الذين تحدثت إليهم أقروا بأنه حتى استطلاعاتهم الخاصة التي أجرتها حملته الانتخابية تشير إلى أنه سيكون رئيساً لفترة واحدة، وأن فرص إعادة انتخابه تراجعت بشدة في الأشهر الأخيرة. بل إن الرئيس ذاته، حسب الموقع، بدأ يعترف لدائرته الخاصة بأنه من الممكن أن يخسر في نوفمبر المقبل.
هذه الصورة تؤكدها كل استطلاعات الرأي الأميركية بلا استثناء، وبشكل متواصل منذ مارس (آذار) الماضي، إذ أنها تشير إلى تقدم بايدن على ترمب بنسب تتراوح بين 5 و14 في المائة. وقد جن جنون الرئيس الشهر الماضي عندما أشار استطلاعان للرأي في صحيفة «نيويورك تايمز» وقناة «سي إن بي سي» إلى أن نسبة تأييده باتت أقل من 40%، فوصف النتائج بأنها «أخبار مفبركة». لكن «نيويورك تايمز» أكدت أن استطلاعها للرأي أشار إلى أن 50% من الناخبين يؤيدون بايدن مقابل 36% لترمب. المرعب لمعسكر ترمب الانتخابي أن استطلاع «نيويورك تايمز» وجد أنه تراجع في ست ولايات مهمة لإعادة انتخابه وفاز بها في 2016، وهي بنسلفانيا وفلوريدا وميشيغان وأريزونا ونورث كارولينا وويسكونسن، وأن بايدن متقدم فيها بنسب تتراوح بين 6 و9%.
بعض أنصار الرئيس يأملون في انقلاب في حظوظه مشابه لما حدث في انتخابات عام 2016، عندما تمكن من تحسين مركزه على الرغم من استطلاعات الرأي التي كانت تعطي تقدماً لهيلاري كلينتون حتى قبل أسابيع من الانتخابات. لكن الظروف اليوم تبدو مختلفة عنها في 2016 التي قلبت فيها فضيحة الإيميلات، والتدخلات الخارجية عبر منصات التواصل الاجتماعي، خصوصا «فيسبوك»، الطاولة لصالح ترمب.
اليوم هناك ستة عوامل تلعب ضده وتضعف فرص إعادة انتخابه، على رأسها معالجته لجائحة «الكورونا» التي ضربت أميركا بقوة وما تزال أرقام ضحاياها في ارتفاع (129 ألفاً عدد الوفيات حتى أمس، و2.7 مليون إصابة)، وسط اتهامات بأنه استسلم في هذه المعركة وصرف تركيزه نحو حملته الانتخابية. بل إن إصراره على تنظيم مهرجان انتخابي في أوكلاهوما الأسبوع الماضي، اعتبر قمة اللامسؤولية، لأنه يعرض الناس للخطر مع استمرار انتشار فيروس «الكورونا» وارتفاع الإصابات مجدداً في 26 ولاية، علماً بأن المهرجان جاء بنكسة أخرى لأنه لم يحقق الحضور الذي كان يأمل فيه الرئيس وقادة حملته الانتخابية.
العامل الثاني هو الاقتصاد الذي كان ترمب يرى فيه إحدى أهم أوراقه الانتخابية، لكنه تعرض لضربة قوية نتيجة جائحة «الكورونا» ولا يتوقع أن يتعافى قريباً. فبينما يتوقع الكونغرس أن تبلغ نسبة انكماش الاقتصاد الأميركي 11% في الربع الثاني من العام الحالي، ضربت البطالة أرقاماً قياسية مع تسجيل 41 مليون شخص أنفسهم على أنهم بلا عمل، بينما تقول الجمعيات الخيرية إن 37 مليون أميركي منهم 11 مليون طفل يواجهون الجوع ويحتاجون الدعم من بنوك الغذاء.
العامل الثالث هو تفجر قضية العنصرية وعنف الشرطة بعد قتل جورج فلويد خنقاً تحت ركبة شرطي أميركي في مينيسوتا نهاية مايو (أيار) الماضي، وما تبعه من مظاهرات هائلة عمت أرجاء الولايات المتحدة، وامتدت لتشمل الكثير من عواصم العالم. ومرة أخرى تعرضت معالجة ترمب لواحدة من الأزمات الداخلية إلى انتقادات عنيفة لا سيما بعد تصريحاته المثيرة للجدل التي بدا فيها محرضاً للسلطات المحلية على قمع المتظاهرين، وملوحاً بإنزال الجيش إلى الشوارع. ويتوقع أن تلعب هذه القضية دوراً في حشد الكثير من الشباب وأصوات الأقليات ضد ترمب في انتخابات نوفمبر.
ويرتبط بهذا الأمر العامل الرابع المتمثل في أن ترمب باندفاعه لاسترضاء قاعدته اليمينية المتشددة، واستخدامه لورقة فرض القانون أثناء المظاهرات، وظهوره لالتقاط الصور وهو يحمل نسخة من الإنجيل أمام كنيسة تاريخية قرب البيت الأبيض أصيب قسم منها بأضرار إبان تلك المظاهرات، خسر أعداداً من المتعاطفين غير المتشددين الذين كانوا عاملاً مهماً في فوزه في 2016.
خامس العوامل أن أهم منصات التواصل الاجتماعي، مثل «فيسبوك» و«تويتر»، بدأت تشدد القيود على الدعايات الانتخابية وأي خطاب تحريضي يؤجج العنف والكراهية. فقد حذف موقع «فيسبوك» إعلانات لحملة ترمب الإنتخابية الشهر الماضي عدها مخالفة للقواعد الخاصة بمكافحة الكراهية. وفي الوقت ذاته حذفت منصة «تويتر» تغريدة لترمب رأت فيها تحريضاً على العنف، بينما وضعت تحذيراً تحت تغريدة أخرى له، ما دفع الرئيس لاتهامها بانتهاك حرية التعبير، وجعله يقرر فرض قيود على شركات التواصل الاجتماعي. وبذلك فإن حملة ترمب تكون قد فقدت جزئياً ورقة مهمة استخدمتها بشراسة في انتخابات 2016، وحصلت من خلالها على التدخل الروسي لصالح حملته.
العامل الأخير أن استراتيجية الديمقراطيين في الآونة الأخيرة هي ترك ترمب يحارب نفسه سواء بأخطائه إبان الاحتجاجات المؤيدة لحركة الأميركيين من جذور أفريقية، أو في معالجته لأزمة «الكورونا». وضمن هذه الإستراتيجية فإن جو بايدن قلل من ظهوره وتصريحاته، وأعلن أول من أمس أنه لن ينظم تجمعات انتخابية بسبب «الكورونا». وبذلك حرم ترمب من أحد أسلحته في الهجوم عليه، واستخدام تصريحاته للسخرية من قدراته الخطابية ووصفه بـ«جو النعسان».
كل المؤشرات الراهنة تؤكد أن حملة إعادة انتخاب ترمب تمر بأوقات عصيبة، وأنه لو صدقت الاستطلاعات فإنه يتجه نحو خسارة مدوية في نوفمبر. وفي ظل هذه الأجواء بدأت بعض الجهات تلمح إلى أن شعبيته لو انخفضت أكثر خلال الأسابيع القليلة المقبلة، فإن عليه أو على الحزب الجمهوري مراجعة الموقف واتخاذ قرار بشأن ما إذا كان من المصلحة ألا يترشح الرئيس للانتخابات ويفسح المجال لمرشح آخر. هذا الأمر لا يبدو متسقاً مع شخصية ترمب، وحبه للمنصب، لكنه يكره أيضاً الهزيمة التي بات يراها احتمالاً وارداً. كثيرون يرون أنه سيبقى متشبثاً ببصيص الأمل، لكن لا أحد يستطيع أن يجزم كيف سيتصرف الرجل المعروف بمزاجيته وعصبيته… ومفاجآته.