تركيا.. ظاهرة محرم إينجه
بيناز توبراك
عندما دعا حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم الذي يتزعمه الرئيس رجب طيب أردوغان، وشريكه في الائتلاف حزب الحركة القومية، إلى انتخابات مبكرة ظن الحزبان أن الفوز مضمون.
وبعدما قدما موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية بواقع عام ونصف العام إلى 24 يونيو 2018، وبقاء 60 يوما فقط على الموعد الجديد، توقع الحزبان أن أحزاب المعارضة ستعاني للاتحاد خلف ائتلاف معارض، وستفشل في طرح مرشح رئاسي يقدر على تشكيل تهديد للرئيس أردوغان الموجود في السلطة منذ 16 عاما.
لكن ظاهرة المرشح محرم إينجه أجبرت أعضاء حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية على مراجعة توقعاتهما بشأن تحقيق نصر سهل في الانتخابات الرئاسية.
طرح حزب الشعب الجمهوري، وهو أكبر أحزاب المعارضة، محرم إينجه مرشحا رئاسيا، وقد نجح الرجل في إلهاب حماس الناخبين وتعبئتهم بطرق لم يقدر عليها أي مرشح معارض آخر منذ وصول أردوغان للسلطة.
وتشير استطلاعات الرأي إلى أن إينجه لن يتقدم لجولة فاصلة مع أردوغان فحسب، بل تشير أيضا إلى أن الائتلاف بين حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية سيفقد الأغلبية في البرلمان.
وتتقدم الانتخابات الرئاسية إلى جولة ثانية فاصلة إذا لم يحصل أي مرشح في الجولة الأولى على نسبة 50 بالمئة من الأصوات. لكن كيف تمكن إينجه من إثارة هذه الموجة من الحماس في فترة قصيرة كهذه؟
أول شيء هو الطبيعة المـرحة لمحرم إينجه التي جعلته مختلفا عن أصحاب اللهجات الساعية للاستقطاب والعدوانية التي خيمت على السياسة التركية في الفترة الأخيرة.
وفور إعلان ترشيحه للانتخابات الرئاسية، زار إينجه كل منافسيه ومنهم منافسه الرئيسي الرئيس رجب طيب أردوغان والمرشح الكردي السجين صلاح الدين دميرطاش، وتبرع بمبلغ 500 ليرة تركية لحملات هؤلاء المرشحين في بادرة مصالحة وأخوة.
ومع تجاوب الناس بشكل إيجابي مع أسلوبه الطبيعي المريح، ومع ما قدم من أنشطة ثقافية من قراءة أشعار ورقص شعبي وقيادة جرارات زراعية، أصبح إينجه ظاهرة على موقع تويتر على نحو سريع.
حيث كتب أحد زملائي يقول “إنه يركب الخيول ويقود الشاحنات والدراجات ويرقص الزيبك، وفوق كل هذا يكتب ويلقي شعره الخاص. أي شيء آخر يمكن أن نطلبه منه؟”. وبينما أنا أكتب هذا المقال رأيت 880 تغريدة نشرت عنه في الساعة الماضية. وعندما يظهر في عرض تلفزيوني ينفجر تويتر بالكتابة عنه. سرعة بديهته وذكاؤه وطبعه المرح، الذي يرفع معنويات الناس ويبدد مخاوفهم، تسجل معدلات قياسية.
باختصار فإن الرئيس أردوغان، وللمرة الأولى، يواجه خصما له معدلات شعبية قـادرة على منافسته. ويوجد الآن مرشح نشط متصل بناخبيه تمكن من تسليط الضوء على الوهن الذي خلفته 16 عاما من الحكم في شخص أردوغان وحزب العدالة والتنمية.
نظم إينجه 74 مـؤتمرا انتخـابيا في أنحاء تركيا خلال 34 يوما. وكان ينظم مؤتمرين وربما ثلاثة مؤتمرات في اليوم الواحد بل في منتصف الليل في بعض الأحيان.
وكتب أحد المتابعين لي على تويتر في الخارج يقول “الشكر لها (مؤتمرات إينجه) لأنني وللمرة الأولى منذ سنوات أستطيع أن أشم بالكاد رائحة تراب بلدي. إن الشباب يحبونه”.
الجانب الشعبي في إينجه بعد واحد في مسألة ترشحه. الأهمية الكبيرة في حملته هي احتمال أن يستيقظ الناس على تركيا مختلفة في صباح يوم 25 يونيو في حال فوزه.
وفي اليوم الأول له في المنصب، تعهد إينجه بإلغاء حالة الطوارئ المطبقة منذ نوفمبر من عام 2016. وكانت حالة الطوارئ سببا في عمليات احتجاز وسجن غير قانونية ليس لها مكان في بلد ديمقراطي.
ويركز برنامجه الانتخابي على إصلاح القضاء حتى يتسنى إطلاق سراح الأكاديميين والمفكرين والصحافيين السجناء. وبتأكيده على أهمية الحرية والديمقراطية والتعليم، تعهد إينجه بوقف هجرة الكفاءات من تركيا.
وأوضح إينجه كيف تسبب الاستقطاب في إعاقة البلاد عن تحقيق التقدم، ويقول إنه سيوفر بيئة سلمية يعمها الشعور بالإخاء للتغلب على هذه الانشقاقات. وقال إينجه إنه سيميز الكفاءات، وأن الهوية لن تلعب دورا في تعيينات الحكومة.
وربما يرى البعض أن هذه مجرد وعود انتخابية جوفاء، لكن يستحيل لتركيا التغلب على أزمتها الاقتصادية الراهنة من دون تنفيذ مثل هذه التغييرات. حيث يؤكد إينجه دوما العلاقة بين الحريات الشخصية والاقتصاد، وهي علاقة لا يمنحها حزب العدالة والتنمية تقديرا كاملا.
ويدرك إينجه أن المستثمرين ورؤوس الأموال تهرب من البلدان التي تسيطر عليها مظاهر الخوف والقلق وانعدام القانون، وأن الخطوة الأولى في التغلب على الأزمة الاقتصادية الراهنة هي قلب هذا المناخ الذي يسوده الاستقطاب.
وللرجل سبب معقول لإعلان ذلك، وقد قال “سوف ترون في أول يوم من انتخابي ستزيد قيمة الليرة أمام الدولار واليورو”. وعلاوة على ذلك، يدرك إينجه أيضا أن قلب تيار الاقتصاد مستحيل في الوقت الذي تحاول فيه الحكومة رد الدين الأجنبي بمزيد من الديون.
ويفهم الرجل أن الطريق لاجتياز المشكلات الاقتصادية التركية هي عبر تغيير النظام الحالي القائم على فرد واحد واقتصاد موجه، وإحلاله بكيانات سياسية واقتصادية مستقلة.
وتعهد إينجه بإعـادة الاستقـلال إلى البنك المركزي، وإعادة هيكلة البنوك الحكومية لدعم الزراعـة والصناعة، والاستعانة بمشورة خبراء اقتصاد، وبمجموعات كبيرة من المستشارين، وتقدير التقدم التكنولوجي.
والهدف النهائي لمحرم إينجه هو تطبيق نظام برلماني ديمقراطي تتفق عليه كل أحزاب المعارضة. ومن شبه المؤكد أن يخوض إينجه جولة إعادة فاصلة ضد الرئيس أردوغان وهو المرشح الرئاسي الوحيد الذي يملك فرصة الفوز على الرئيس في الجولة الفاصلة.
ويتفق كل المحللين على أن ناخبي حزب الشعوب الديمقراطي الذي يملك دعما كبيرا في جنوب شرق البلاد ذي الأغلبية الكردية سيحسمون نتيجة هذه الانتخابات. وقد صوت إينجه ضد تشريع مهّد الطريق لإلقاء القبض على برلمانيين أكراد، وتعهد بالسماح للتلاميذ بتلقي دروسهم بلغتهم الأم مع اللغة التركية، وتحدث بصراحة دائمة مع الأكراد في المسيرات سواء كانت في جنوب شرق البلاد أو لا. ويبدو أن هذه الأمور كلها مجتمعة ستساعده على الفوز بتأييد الناخبين الأكراد.
التحالف الذي ينبغي لناخبي حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديمقراطي تشكيله في الانتخابات واضح، وهو ضرورة أن يصوت بعض ناخبي حزب الشعب لصالح حزب الشعوب الديمقراطي لضمان حصول الأخير على نسبة العشرة بالمئة الضرورية لدخول البرلمان.
وفي المقابل يدعم ناخبي حزب الشعوب إينجه في جولة الإعادة بالانتخابات الرئاسية وهـو ما أكـده زعماء حزب الشعوب. وفي حال فوز حزب الشعوب بأصوات كافية لدخول البرلمان، فإن المعارضة ستملك فرصة كبيرة للسيطرة على البرلمان. وباختصار وفي ظل الزوبعة داخل السياسة التركية، فإن هذه الانتخابات قد تخرج بمفاجآت عديدة.