تركيا تتحول إلى دولة تستحيل إدارتها
مجتمع منقسم مقحم بين خطوط صدع لجماعات مختلفة،واقتصاد يعيش مرحلة الانهيار ومؤسسات دولة تحولت إلى أنقاض.
جنكيز أكتار
كتبت في شهر يناير بشأن السلطة، وبينما لم تكن الانتخابات مطروحة بعد: لقد وصل حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم بالانتخابات، ولكن النظام لن يرحل بالانتخابات أيضا. وإن رحل فإنه ينبغي تقديم جميع المسؤولين، وعلى رأسهم الحاكم، إلى محكمة أمن الدولة العليا، الأمر واضح إلى هذا الحد. من المفيد الاستيقاظ من الحلم وطرح جميع الأسئلة الأساسية.
وفي بداية هذا الشهر كتبت: لقد خسر النظام بالفعل، وربما هو خسر اعتبارا من عام 2013. من الواضح أنه وهو في هذا المكان الذي وصل إليه يعيش حالة من الذعر بسبب المساءلة التي يجب أن يتعرض لها يوما ما.
وهذا الأمر لا ينطبق على النظام وحده فحسب، بل وعلى القاعدة الجماهيرية العريضة الموالية له. إن الشراكة في ارتكاب الجريمة شيء مفطور في النظام. إنهم مطالبون بدفع ثمن المكاسب غير العادلة التي تحصلوا عليها بغير حق، والمواقع التي وصلوا إليها بالتبعية، والأضرار الدائمة التي ألحقوها بالناس والطبيعة والمدينة.
وبنفس الطريقة يدرك الإسلام السياسي وأنصاره أنهم إذا ما انزاحوا من السلطة فلن يستطيعوا العودة إليها مجددا. عندئذ يصبحون في وضع حرج للغاية، لأن هذه الكتلة يجب أن تدافع عن نفسها حتى الموت. الخلاصة أنها ستدافع حتى الحصول على ما تريد وحتى الموت.
والآن، دعونا ننظر إلى الحال اليوم. إن النظام الجديد نظام تعسفي يعتمد على مبدأ القوة الغاشمة وتتخذ فيه كل القرارات سريعا ومن قبل عدد قليل جدا من المسؤولين في القصر الرئاسي، والبرلمان فيه تحول إلى مجرد مكتب توثيق قضائي أو شهر عقاري، والقضاء في ظله صار مجرد حارس مأجور، وتطغى عملية إنهاء الأعمال فيه -حسبما هو مطلوب- على كل أنواع التوازن والمراقبة ومبدأ الاستشارة. فهل يمكن أن يستمر هذا؟
من الناحية الاقتصادية لم يبق لدى النظام خيار سوى الاقتراض العام. فنسبة الدخل القومي للدين العام يمكن أن تصل إلى 70 بالمئة من مجموع الديون الداخلية والخارجية والخاصة. والحسابات الفرعية المتعلقة به أكثر من ذلك بكثير، ولكن الديون وصلت إلى حجم يستحيل معه سدادها.
ليس من الحكمة ولا من المعقول توقع أن يحدث تراجع عن الأخطاء الفاحشة التي ارتكبت خارجيا حتى اليوم، ولا التخلي عن السياسات العدوانية التي تعتمد على القوة
جميع المؤشرات خلافا لهذا تشير إلى أن جميع السبل مغلقة. فالإنفاق الذي تم بسبب الانتخابات، والأموال التي ضاعت على المغامرات العسكرية، والإسراف الضخم المتعدد الأبعاد، وذعر الرئيس من سعر الفائدة بلغ حجما قادرا على الزج بالاقتصاد سريعا في أزمة متوقعة.
أما من الناحية السياسية فإن شرعية “النصر” ستظل مطروحة للتساؤل بصورة دائمة طالما أن الانتخابات جرت في بيئة غير عادلة وليست حرة تماما.
ليس من الحكمة ولا من المعقول توقع أن يحدث تراجع عن الأخطاء الفاحشة التي ارتكبت خارجيا حتى اليوم، ولا التخلي عن السياسات العدوانية التي تعتمد على القوة.
إن بعض أصحاب العقول في الداخل والخارج يحسبون أن الرئيس سيشعر بالراحة لأنه نال ما أراده. ولكنه ليس من الممكن ماديا ولا معنويا “استرخاء ولا راحة” النظام داخليا ولا خارجيا. فالخطاب الذي أُلقي من شرفة القصر الرئاسي قد أبان بالفعل عن لون المرحلة القادمة. ولكن قد تكون هناك مواقف جديدة مثل: إن الحاكم المطلق “ربما يعفو” عن أصدقائنا المحبوسين لأنهم تعرضوا لغدره، ولكن انتبهوا فهذا عفو وليس تبرئة!
أما أولئك الذين يحلمون بسلام من جديد مع حزب الشعوب الديمقراطي فينبغي لهم ألا ينسوا أن هذا لا يتوافق مع الطبيعة الفاشية وأبعاد أحداث روج آفا/وقنديل.
تركيا اليوم بمجتمعها الممزق المقحم بين خطوط صدع لجماعات مختلفة، وباقتصادها الذي يعيش مرحلة الانهيار، ومؤسسات الدولة التي تحولت إلى أنقاض، وطبيعتها التي سُويت بالأرض، ومدنها وثقافتها، وسياستها الخارجية العدوانية، ونظامها المتجبر دولة “تستحيل إدارتها”.
والآن دعونا نتطرق إلى المعارضة؛ فبالرغم من تصرفاتها الغريبة التي حدثت ليلة الانتخابات وإضافة إلى سياسة حزب الشعوب الديمقراطي هناك أيضا محرم إينجه. فما مقدار الدعم الذي سيقدمه له حزبه المتهالك، وهل سيستطيع التخلص من مجال جاذبية كونه الحزب العريق في هذه الدولة، وهل يستطيع حزبه الاستمرار دون انقسام؛ كل ذلك ستظهره الأيام المقبلة.
إن جبهة المعارضة التي تشكلت من أجل التخلص من أردوغان، والمكونة من خمسة عناصر غير متآلفة لا يبدو من الممكن أن تظل صامدة أمام الهزيمة التي منيت بها، سوف يرجعون إلى أصولهم. وسوف ينكشف سريعا أنه لا أساس لعباءات الحكمة والديمقراطية التي أُلبِست لحزب السعادة والحزب الصالح طيلة الحملة الانتخابية. كما سينكشف سريعا أن الكيانات التي عُرفت بأسماء مثل “الجبهة المناهضة للفاشية” و”الجبهة الديمقراطية” لا أساس ولا تفسير لها بالرغم من كونها عبارة عن جبهة “معارضة لأردوغان”.
وممارسة السياسة في البرلمان التركي الذي تحول إلى مؤسسة توثيق مطيعة لن تعني شيئا ولا سيما بالنسبة للمعارضة. فالمعارضة أقرب إلى الناخب على أية حال، لأنه لن يكون لها أي ثقل في المجلس. ولكن ربما يكتفي البعض بالحصول على راتب شهري مغر.
وإذا ما نظرنا إلى الحملة فإن فكرة “علينا ألا نفسد حالتنا المعنوية” يستحيل أن تكون سياسة في حد ذاتها. وإن كان ممكنا فهذا يعني أن شؤون البلاد قد تركت للملائكة.
إن الاعتقاد بإمكانية التخلص من الفاشية من خلال عمليتين انتخابيتين والإدلاء بصوتين فيهما ليس إلا نقاشا لا غنى عنه حول أسباب الحالة التي وصل إليها هذا المجتمع، وإرجاء للمحاسبة على ذلك، وعيشا مع تلك المشكلات.
إن من لا يرغبون في تصديق هذه النتيجة اليوم عجزوا عن أن يقرأوا ويفهموا بشكل صحيح الفاشية التي استقرت في تركيا، وقد حسبوا أن هذا الأمر حادثة اجتماعية مؤقتة، وروحا انتخابية عابرة. ويتحملون مسؤولية دفع الناس إلى توقعات لا أساس لها. إنهم شركاء في إحداث الانهيار النفسي والمعنوي.
جبهة المعارضة التي تشكلت من أجل التخلص من أردوغان، لا يبدو من الممكن أن تظل صامدة أمام الهزيمة التي منيت بها
كان، ولا يزال، ينبغي بالإضافة إلى التصنيفات والتحليلات المدونة، والأخطاء التي ارتكبتها النخبة السابقة، والتاريخ السياسي لتركيا، وعلاقات العمل، والبيئة المحيطة، والأحزاب أن يوضع أردوغان والقاعدة الجماهيرية المؤدية لنظامه في الحسبان من أجل فهم ظاهرته -أردوغان- والنظام الذي يقاتل من أجل تأسيسه.
إن الاكتفاء بمجرد التمرد على عدم شرعية النظام الفاشي الذي تشكل خارج القانون والذي يهيمن على الأمور حتى اليوم، ومقابلة سوقيته بالسخرية والاستهزاء ثبت أنها لم تنفع في شيء على الإطلاق. والفقهاء القانونيون البارزون في تركيا يؤكدون منذ سنوات على عدم شرعية تصرفات وإجراءات النظام. ووسائل التواصل الاجتماعي تسخر من كل تصرفات النظام غير الشرعية. ومظاهر إخلال القانون التي ارتكبت بالأمس عيانا بيانا أغضبت الجميع. ولكن ماذا بعد ذلك؟
إن الإشارة إلى الانتهاكات القانونية، وتحديد الإجراءات غير المشروعة التي تمت يحملان أهمية قصوى قد ألبته. إلا أن “القانون الجديد” الذي يفرض ببطء وبالإجماع قبول ما يستحيل قبوله لم يؤخذ على محمل الجد بما فيه الكفاية. وفي النهاية تربع الرئيس ونظامه تماما وقسرا على ناصية البلاد، ولا يزال قادة الرأي في البلاد يتحدثون عن هذه البلاد التي وصلت إلى هذه المرحلة.
إن الشمولية في تركيا نشأت من بلد نموذجي كان في زمان ما مرشحا لعضوية الاتحاد الأوروبي، ويمتلك اقتصادا يعد بمستقبل باهر، ومرشحا لأن يكون الأبرز في العالم، وليس نتيجة للأزمات التي أنهكت المجتمعات مثلما حدث في ألمانيا وإيطاليا وروسيا أوائل القرن العشرين.
وليست هناك حتى الآن تحليلات بشأن طبيعة هذا الخيال بالضبط، وما الذي يكمن في جوهره، وما هي موارده؛ وآمل أن تظهر تحليلات بشأن ذلك حين تتعمق الفاشية وتحاصر الساحة تماما. لقد تحول أردوغان إلى مشكلة بالنسبة لنصف سكان تركيا.
وهذه الحقيقة ليست مجرد شبح يمكن التغلب عليه بالتمني والتوكل والشتائم والسخرية والاستهزاء، إنها تتطلب سياسة بالمعنى الحقيقي. ترى هل سيتمكن من النجاح في هذا المجتمع التركي المعطل ديمقراطيا؟ إن الإجابة على هذا ستكون مرهونة بعض الشيء بشدة الانهيار.