ترجمة النص الشعري.. العبور المحفوف بالمخاطر
خاص 218 |خلود الفلاح
نقاشٌ متجددٌ تُثيره ترجمة الشعر من لغة إلى أخرى، وكثيرًا ما يوصف بـ(العبور المحفوف بالمخاطر). إذ يقف المترجم حائرًا بين الترجمة الأمينة للنصّ الشعري وحتمية الخيانة.
آماليا، عبير، بهاء، سعيد؛ مترجمون عرب، يؤمنون أن الترجمة ليست خيانة، بقدر أن النص الشعري يعتمد على مهارة المترجم ووعيه باللغتين (الناقل منها وإليها).
في هذا الاستطلاع، أكد الضيوف، أن النص الشعري لا يفقد شيء في انتقاله من لغة إلى أخرى طالما حافظ المترجم على روح النص الأصلي.
ترى المترجمة الفلسطينية آماليا داود أن الصعوبة في ترجمة النص الشعري هي اختياره بما يتناسب مع مستوى المترجم ووعيه بروح النص الأصلي وعدم تغيير التشابيه أو المعاني لتناسب الذائقة العربية كما يفعل بعض المترجمين من مذهب الترجمة الثقافية عندما يترجمون النص حسب الثقافة العربية ويبحثون عن تشابيه وتعابير من اللغة العربية بعيدة كل البعد عما كتبه الشاعر في اللغة الأصلية، فكأنهم كسروا له يده وساقه وطعنوه بخنجرٍ في قلبه.
وتعترف صاحبة كتاب “إذا وقعت في حب كاتبة”، المترجمين كما الشعراء مستويات وعندما يقوم مترجم بترجمة نص شعري لشاعر أقوى منه يفقد النص روحه، أما نقل النص من لغة إلى أخرى؛ فلا يفقده شيء إذا نقل المترجم روح الشعر الأصلي وفهم عمقه، اللغة بوصفها أداةً لا إطارًا، والشعر بوصفه لغة عالمية.
تؤمن عبير الفقي، وهي شاعرة ومترجمة، بأن ترجمة الشعر عملية لا يستطيع القيام بها إلا شخص أحب الشعر والترجمة معًا.
ولفتت الفقي إلى أنه من الأفضل أن يكون المترجم شاعرًا أو متذوقًا جيًدا للشعر، كما يجب أن يكون المترجم على وعيٍ باللغتيْن اللتين يتعامل معهما.
وتحدثت صاحبة كتاب “لا أحد ينصت إلى الأغنيات” عن أن هناك أسلوبان أو مدرستان للترجمة، أولهما الاسلوب التأويلي أو الترجمة التأويلية أو تأويل النص الشعري، وفي هذا النوع من الترجمة قد يضيف المترجم للنص من رؤيته مبتعدًا عن مضمون النص الأصلي فيخلق نصًا جديدًا قد يباري جمال النص الأصلي وربما يتفوق عليه أيضا، ورغم ذلك يعتبر البعض أن ذلك الفعل خيانة للنص الأصلي وهو كذلك، لأن النص الجديد يعدّ نصًا غريبًا بعيدًا عما أراده كاتب النص الأصلي.
ويفرض الأسلوب الآخر الالتزام بمضمون النص الأصلي وإعادة تشكيله بما يقابله في اللغة المترجم إليها، وهنا تظهر مهارة المترجم أو ضعف إمكاناته اللغوية لصعوبة واختلاف تكوين كل لغة، كما يصبح الحفاظ على النسق الموسيقى أو الإيقاعي في النص الشعري للغة المترجم إليها عملية صعبة؛ لذا قد يضحي المترجم بالإيقاع الموسيقي للنص الشعري في سبيل إيصال المعنى الحقيقي للنص الأصلي.
وأشارت صاحبة كتاب “نيران قاسية” إلى أنه رغم ما قد يُفقد من إيقاع موسيقي في النص المترجم إلا أن الجميع يتفق على ضرورة الترجمة الشعرية لأنه ببساطة؛ إذا لم تكن هناك ترجمة للشعر، لم يكن بالإمكان الاطلاع على أعمال شعرية رائعة لشعراء من ثقافات مختلفة كشكسبير وروبرت فورست وآنا أخماتوفا وغيرهم.
لذلك؛ هناك حاجة دائمة لنقل ثقافة الآخر وتطويع اللغة لتحقيق هذا الهدف، لذا تستمر الترجمة في أداء هذا الدور رغم ما قد يواجه المترجم من عقبات.
ويقول الشاعر المترجم اللبناني بهاء إيعالي: إشكاليّة ترجمة الشعر ليست حديثة العهد، فثمّة نقاشٌ طويلٌ حولها وانقسامٌ حادٌ بين مستحسنٍ ومستهجنٍ لها، ولعلّنا جميعاً نعرف ما قاله الجاحظ عن استحالة ترجمة الشعر، لكن مقولة الجاحظ باتت اليوم مجرّد رأيّ يخصه، فكثيرٌ من الشعر العربي القديم نقل إلى اللغات العالمية وأجريت عليه دراسات وأبحاث مطوّلة، وكذلك ما كتبته اللغات الأخرى شعراً بات اليوم يُترجمُ إلى العربية.
واستطرد: “عمليًّا لا يمكن القول إن ترجمةً أدبيّةً تستطيع أن تحافظ على النص الأصلي بصورته الكاملة، تحديدًا ترجمة الشعر، فحتماً ستفقد القصيدة المترجمة بعض خصائصها. أما ما يفقده الشعر حين يُنقل من لغة إلى أخرى فهي تسميته الاصطلاحيّة قبل كلّ شيء: الشعر. كيف ذلك؟ بفقدانه لإيقاعه الأصلي يحصل ذلك، خاصّةً وأنّنا نتحدّث عن لغتين مختلفتين في الخصائص والتراكيب والإيقاع، فاللغة العربية تختلف عن الفرنسيّة، والفرنسيّة تختلف عن الانكليزيّة، والإنكليزية تختلف عن الروسيّة، بالتالي لا يمكن لنصّ نقل من لغةٍ إلى أخرى أن يبقى على إيقاعه الأصلي مهما بلغت براعة المترجم”.
ويرى صاحب كتاب “الهاجس” أن القصيدة المترجمة لم تعد قصيدةً اصطلاحًا، بل الأفضل تسميتها “نصّ شعري”، إن اكتفى بإفقادها إيقاعها الأصلي، ولا تصبح قصيدةً إلا حينما يعطيها إيقاعًا مختلفًا، والنقاشُ في هذه المسألة لا نهاية له.
وأضاف: “ما يمكن أن يبقي على النص المترجم صفة الشعريّة هو جوهر الفكرة الموجودة فيه، وهنا تكمن صعوبة ترجمة الشعر لدى المترجم، ألا وهي قدرته على إبقاء الحالة الشاعريّة في الفكّرة، وهو ما يسمّيه المترجمون (الترجمة من شعرٍ إلى شعر)، أي أنّه لا يكفي المترجم براعته اللغويّة ليحسن نقل النص بقدر ما يحتاج لتجسّد روح الشاعر فيه”.
وبحسب صاحب كتاب “الضوء آخر عصفورٍ في السماء” فإنّ ترجمات الشعراء للشعر أفضل من ترجمات المترجمين الأقحاح، فالشاعر المترجم يستطيع، حسب خبرته، أن يجمع ما بين إجادته للغةٍ معيّنةٍ وروحه الشعرية في النص المترجم، وبالتالي نكون أمام نص شعري الروح ومتين اللغة، وهكذا تصبح إشكاليّة ترجمة الشعر أكثر مرونة، فيكفي نقل الفكرة بصورتها الشعرية الجليّة وترتيب إيقاعٍ مناسبٍ لعربيّتها المستحدثة كي نكون أمام قصيدةٍ لا تقلّ شأناً عن مثيلاتها العربيّة أصلاً.
وأشار المترجم المغربي سعيد بن الهاني، إلى أن ترجمة النص الشعري من اللغة الأصل إلى اللغة الهدف تطرح إشكالات أسلوبية عميقة، تجعل البعض عملاً بمقولة الجاحظ ينتصر لفكرة استحالة ترجمة الشعر. الدليل على ذلك الشعر العمودي وإيقاعه الموسيقي الذي يعتمد نظام الشطرين، البحر، القافية، الروي، التصريع، التدوير، والتوازي.
وأفاد، أن نسبة كبيرة من قيمة هذا النص تضيع، فتضيع معها الجماليات التأليفية المرتبطة بموسيقى هذا النص، الذي قد يفقد عند ترجمته قيمته النوعية، ويحجب عنا الروح الداخلية للقصيدة، فضلاً عن فقدانه لحرارة الاتصال بإيحاءات النص وتشبيهاته ومجازاته المرتبطة بسياق إنتاج النص وثقافة صاحبه المرتبطة بموروث حضاري لأمته. يغدو معها أي نقل لهذا النص إلى لغة أخرى مهددا له بفقدان الخيط الرابط للتفاعل معه، خاصة في غياب إلمام المترجم بشروط العملية التواصلية التي يندرج فيها الفعل الترجمي “المؤلف، المولَّف، القارئ”، وقد ننتصر لفكرة أن الخسارات تقل في أجناس شعرية متحررة من قيد القافية والبحر والروي.
ويذهب صاحب كتاب “حمالو الندوب” إلى أنه لا يمكن للفعل الترجمي، خاصةً المرتبط بالشعر، أن يقفز عن حقيقة الإقرار ببعض الصعوبات المرتبطة بهذا العبور من اللغة الأصل إلى اللغة الهدف.
وأضاف: ” مهمة المترجم كما تحدث عنها المفكر عبد السلام بنعبد العالي وقيمته تتجليان في مدى قهره للصعوبات التي تطرحها تعدد اللغات، تباين الثقافات، وذلك بأن ينتج نصًّا يكون طبق الاصل مهمته أن يقهر المسافة التي تفصل النص عن ترجمته والأصل عن نسخته، وأن يمحو اسمه، ليسمح لكاتب النص الأصلي أن يتكلم بلغة أخرى، من دون أن يفقد هويته”.
وبحسب صاحب كتاب ” وردة لا تذبل أبدا” أن المترجم يعيش حيرة بينية، بين التدخل في النص من عدمه، أن يبرز اسم الكاتب الأصلي دون توقيعه الشخصي كمترجم، بين الإضافة والتعديل، والحفاظ على روح النص وحرارة اتصاله بالقارئ.
وقال: النص الشعري له بنية نسقية تفاعلية متعددة، لا يمكن المجازفة بنشره دون الاطلاع عليها من مترجم له خبرة جمالية بالموضوع، متمكن من لغة النص المترجم.
ويختم بن الهاني حديثه قائلاً: فلابد من توفر ذائقة شعرية وخبرة لسانية وثقافية بالفعل الترجمي، باعتباره رسالة حضارية تفتح نافذة الامل والثقة في مستقبل البشرية.