تراجع “التنارات”
عمر أبو القاسم الككلي
رغم تمتعِ ليبيا بساحلٍ متطاولٍ يبلغُ حوالي ألفي كيلو متر، يَحُدُّ بحراً زاخراً بالثرواتِ السمكيةِ، إلا أن علاقةَ الليبيين بالبحرِ، كمصدرٍ غذائيٍ، ظلت، تقليدياً، ضعيفةً، مقارنةً بعلاقةِ غيرهم من الشعوبِ المتوسطيةِ به.
لكنَّ هذه العلاقةَ كانت، رغم ضعفِها، موجودةً باستمرار، مشكلةً جزءاً من التاريخِ الاقتصادي والثقافي لسكانِ المناطقِ التي وُجدت بها، محددةً علاقةَ الناسِ بمحيطِهم البيئي والجغرافي. حيث شكَّلَ صيدُ السمكِ مصدرَ رزقٍ لبعضِ سكانِ المدنِ والبلداتِ الساحلية.
أخذ هذا النشاطُ أشكالاً مختلفةً، من أبرزِها المصائدُ الثابتةُ، أو ما يُعرفُ بالتنارات، و مفردُها تنارة، وهي كلمةٌ إيطاليةٌ تعني حرفياً: الصيدُ بواسطةِ الشباك.
والتنارات عبارة عن أشراك هائلة الحجم تنصب في طريق أسماك التونة زرقاء الزعنفة والأنواع المشابهة لها، مثل البلاميط والرزام، عند مرورها بقرب شواطيء البحر الأبيض المتوسط متوجهة شرقا، حيث تكون قادمة من المحيط الأطلسي أواخر الربيع و أوائل الصيف، بحثا عن بيئات مائية دافئة ملائمة لوضع البيض. وتعتبر أسماك التونة زرقاء الزعنفة أسماكا كبيرة الحجم قد يصل طولها إلى حوالي ثلاثة أمتار ويفوق وزنها في بعض الحالات الستمئة كيلو غرام، أي ما يشكل وزن ثور.
هذه الطريقة من طرق الصيد البحري قديمة لدى بعض الشعوب المتوسطية، إذ يعود تاريخها إلى بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
و لكن تعرف إليها الليبيون بعد مرور حوالي عقد على و قوع ليبيا تحت الاحتلال الإيطالي، حين أقام الإيطاليون سنة 1920 أربع تنارات في كل من قرقارش و الرأس الأحمر وسيدي عبد الجليل والجزيرة.
اقتصرت عملية الصيد عن طريق التنارات في ليبيا، أو كادت، على مدن وبلدات ساحلها الغربي، بسبب غناه بأسماك التونة ذات الزعنفة الزرقاء والأنواع المشابهة لها.
وحتى وقت قريب، كانت تتوزع على المنطقة الواقعة فيما بين أبوكماش غربا إلى مصراتة شرقا عشرون تنارة، كلها تقريبا أصبحت الآن أثرا بعد عين، مثلما يقال. وظاهرة تلاشي التنارات من حيث هي وسيلة مهمة من وسائل الصيد البحري ليست ظاهرة تنفرد بها ليبيا وحدها، وإنما هي ظاهرة عامة ناشئة عن ظهور وسائل و طرق صيد جديدة، أكثر كفاءة.
* * *
يتم التحضير لنصب التنارة وتهيئة أدواتها ومعداتها على البر. فالتنارة، من الناحية الفنية، هي مجموعة قوارب مجرورة وأخرى ذات محركات. بالإضافة إلى حبال حديدية تسمى الرميجات و أخرى حديدية مغلفة بغلاف لدائني تسمى الصوما وحبال صبار وشيما وعوامات لدائنية خاصة مصنوعة بالفلين، وشباك من النايلون ذات عيون واسعة وأخرى ضيقة ومخاطيف حديدية يزيد وزن بعضها على أربعمئة كيلو غرام، إضافة إلى سبعة آلاف قالب طوب أبيض لتثبيت الشباك.
* * *
تبدأ التحضيرات في وقت محدد من السنة هو اليوم الأول من شهر ثلاثة. وأول خطوة في هذه التحضيرات هي أعمال الصيانة، حيث يجري إصلاح وصيانة القوارب، و إصلاح وإعداد الشباك وتهيئة المعدات الأخرى. ورغم ما يبدو عليه العمل، للناظر إليه من أول وهلة، من بدائية وعدم تعقيد، إلا أن النظرة المتريثة تكتشف بسهولة مقدار الدقة والتنظيم فيه، حيث كل شيء محسوب، ومُقاس، ومتروى فيه، ومسنود بخبرة عميقة، متأتية عن تاريخ في المهنة طويل وحافل. إنه عمل يتم بدأب النمل ومثابرته وتخصص النحل ودقته، ولكن، قبل ذلك وأثناءه وبعده، بتخطيط الإنسان وإرادته وذكائه وعزيمته.
* * *
كانت العمالة في البداية ليبية كلها وصار يستعان الآن بالأيدي العاملة غير الليبية.
* * *
يُبدأ نصب التنارة في وقت محدد أيضا هو اليوم السادس و العشرون من شهر أربعة.
تحمل المعدات والأدوات على القوارب لإدخالها إلى البحر والشروع بإقامة التنارة. تنقل هذه الأثقال البالغة بالجهد الإنساني العضلي المجرد، سوى من روح التعاون والتآزر الإنساني. وهو عمل محفوف بمخاطر عديدة كثيرا ما تعرض لها البعض.
* * *
تتركب التنارات، وهي منصوبة، من حائط شبكي يمتد على مسافة تقارب النصف كيلومتر، ينتهي بعدد من الحجرات ذات الحوائط الشبكية تدخلها الأسماك بسهولة دون أن تتمكن من الخروج منها. الحجرة الأخيرة في التنارة تسمى حجرة الموت وهي ذات حوائط وأرضية شبكية يتم استدراج الأسماك إليها عند جني المحصول، أو ما يسمى بالمتانسا.
تستغرق عملية التركيب وقتا طويلا وتقتضي جهدا منسقا متكاملا تتوزع فيه المهمات وتتحدد المسؤوليات.