تحدٍ آخر أمام مسلمي بريطانيا
عادل درويش
ليست المرة الأولى التي نتناول فيها إشكالية نظرة بقية طوائف المجتمع البريطاني إلى المسلمين، وخطورة احتمال تطور علاقتهم ببقية طوائف المجتمع إلى مواجهات سلبية.
عدت للظاهرة بمناسبة الحكم في قضية نيوكاسل في شمال شرقي إنجلترا. عصابة كلها من المسلمين من أصول آسيوية، حكم عليهم بالسجن لسنوات طويلة بتهم الاختطاف وإفساد أخلاق قاصر، والتعدي على أطفال دون السن القانونية، والكسب غير المشروع، وإدارة شبكات دعارة.
معظم أفراد العصابة من الجيل الثاني من المهاجرين، ومن مواليد مدن الشمال ووسط إنجلترا، أتاحت لهم طبيعة أعمالهم الاحتكاك بمراهقات دون السن القانونية في حالة لا يستطعن فيها الدفاع عن أنفسهن، وغالباً من طبقات اجتماعية فقيرة.
معظم أفراد العصابة من سائقي سيارات الأجرة، ومن وكالات لإدارة سيارات الأجرة، والمطاعم وبخاصة المأكولات الجاهزة والوجبات السريعة (التيك أواي)… أي ما يعرف بالنشاط التجاري الليلي.
طبيعة هذا النشاط أتاحت لأفراد العصابة فرصة استغلال المراهقات في أعمار تراوح ما بين الثالثة والسادسة عشرة، وعرض توصيلهن إلى المنازل بعد تقديم الوجبات السريعة مجاناً أو بتخفيض كبير. التوصيلة تتحول إلى اختطاف أو احتجاز أو تغرير، ثم تحويلهن إلى مدمنات على المخدرات. والمدمن مسلوب الإرادة يصبح ألعوبة في يد من يمده بالمخدرات، وبقية الحكاية مثل عشرات الروايات من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر التي تحولت إلى ميلودراما في السينما في أوائل القرن العشرين.
الفارق أن الرواية لم تكن بطلتها فتاة مسكينة واحدة غرر بها، وإنما مجموعة من الفتيات أصبحن سلعاً تستغلهن العصابة في الاتجار بأجسادهن، والفارق الآخر أننا في القرن الواحد والعشرين وليس القرن التاسع عشر.
هذه الجريمة المأساة لضحاياها والمجتمع ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة؛ لأن المأساة تكررت بكل تفاصيلها في بلدة روتشديل، ثم في ضواحي أوكسفورد في الأعوام الثلاثة الأخيرة.
في الحالات كلها أفراد العصابة من المسلمين معظمهم من الآسيويين، والضحايا من المراهقات دون السن القانونية، كلهن من الإنجليز البيض من غير المسلمات.
وقد يتساءل القراء أين البوليس؟ أين مكاتب الشؤون الاجتماعية في البلديات المحلية، وغيرها من المؤسسات الاجتماعية؟
ولماذا الضحايا من البيض من غير المسلمات؟
نبدأ من السؤال الثاني، وهو الأخطر؛ لأنه يفجّر قضية المواجهة ويعمّق الكراهية. إنها ثقافة تعالي مسلمين على الآخرين واعتبارهم غير المسلمين، حتى ولو كانوا الأغلبية من سكان البلد الأصليين في المجتمع المضيف، أقل شأناً وأقل قيمة من المسلم؛ ثقافة الجماعات المتطرفة وغيرها من أمثال «داعش».
وإذا كانت هذه التيارات تعتبر الآخرين في المجتمعات الإسلامية نفسها، أقل شأناً أو تحلل استعبادهم وقتلهم، أو إساءة معاملتهم، فما بالك بنظرتهم إلى غير المسلمين أصلاً؟
إنها ثقافة ونظرة يعتبرهما علماء النفس الاجتماعي ضروريتين للجاني ليبرر كشخص أو كجماعة لأنفسهم ارتكاب جرائم قانونية وأخلاقية واجتماعية تجاه الآخرين؛ لأنهم جرّدوهم من حق المساواة معهم في الإنسانية وفي المستوى الاجتماعي.
والعودة للسؤال الأول عن سبب تكرار هذه المأساة، وبخاصة أنه في كل مرة يتضح، من تحقيقات الصحافة الاستقصائية، وليس من تقارير يسمح المسؤولون بنشرها، أن أهالي الضحايا أو الجيران أو بعض أفراد المجتمع نبّهوا المسؤولين في مكاتب الرعايا الاجتماعية، والبعض أبلغ البوليس بنشاط هذه العصابات، لكن تقاعَس المسؤولون عن أداء أدوارهم.
هذه المرة فقط مأمور بوليس تقاعد قبل بضعة أشهر، قال لـ«بي بي سي» ما ملخصه أن دفن الرؤوس في الرمال والكذب على النفس هو جوهر المأساة، ويجب تسمية الظاهرة باسمها الصحيح، إنها جريمة عنصرية من جانب هذه العصابات تجاه الآخرين الذين يعتبروهم أقل شأناً… لكن هذا الضابط المتقاعد ما كان ليجرؤ على الإدلاء بهذه التصريحات علناً قبل أن يتقاعد، وهو مفتاح فهم تقاعس المسؤولين عن التعامل مع الظاهرة المتكررة.
ففي السنوات الأخيرة أصبحت تهمتا الإسلاموفوبيا والعنصرية أخطر تهمتين يخشى أي مسؤول أن توجه إليه؛ لأن في ذلك ضياعاً لمستقبله، وإنهاء فرصته في الحصول على أي وظيفة أخرى.
وفي حالة هذه العصابات تكون التهمة مزدوجة؛ فهم مسلمون إضافة إلى أنهم آسيويون.
نائبة مجلس العموم في الدائرة التي جاءت منها معظم الضحايا تلقت الإهانات من عدد من الشبان المسلمين، واتهمت بالعنصرية.
ورغم أن الغالبية الكبرى من هذه العصابات هم من الآسيويين من شبه القارة الهندية، فإن العرب المسلمين أيضاً يتحملون قدراً كبيراً من المسؤولية.
فبدلاً من التأقلم وتنمية ثقافة إسلامية عربية بريطانية مندمجة متطورة، وبخاصة أن معظمهم لا يعيش في غيتوهات جغرافية كحال الآسيويين، إلا أنهم عاشوا في الغيتو الثقافي المنعزل من ناحية، ومن ناحية أخرى لم يتصدوا للثقافة الإسلامية المتطرفة من جانب الآسيويين، الذين لا يعرفون اللغة العربية، لغة القرآن، بل إنهم قبلوا بمنظمات وجمعيات غير ديمقراطية لم ينتخبها أحد ادعت تمثيل كل مسلمي بريطانيا، بمن فيهم المسلمون القادمون من بلدان الجامعة العربية. فالجماعات المسيسة من العرب إما أيدت نشاط المنظمات التي أسسها الآسيويون بشكل غير ديمقراطي، أو سكتوا عن نشاطها الانعزالي وأحياناً السلبي، كحال مدارس تعليم الأطفال الدين الإسلامي.
وأسوأ ما ساهم فيه بعض المسلمين العرب في بريطانيا هو الانسياق وراء المنظمات التي تدعي تمثيل المسلمين، وترجم أي مسؤول أو ناشط في المجالين الثقافي والتعليمي بتهمة الإسلاموفوبيا إذا حاول التقدم بمشروع إصلاحي، أو كشَف عيوباً أو نشاطات سلبية.
وفي السنوات الماضية ظن نسبة كبيرة من العرب المسلمين في بريطانيا أنهم يدافعون عن الإسلام وعن المجتمعات الإسلامية بالانسياق وراء المنظمات الآسيوية بتوجيههم تهمة الإسلاموفوبيا للمسؤولين والمؤسسات الاجتماعية، وفاتهم أن لهذه المؤسسات أهدافاً سياسية بعيدة المدى.
لا شك أن المنظمات التي تدعي تمثيل المسلمين خلقت جواً مشابهاً لفترة المكارثية في أميركا عندما كانت تهمة التعاطف مع الشيوعية تفقد المسؤول أو الفنان عمله، لكن في بريطانيا في السنوات الأخيرة كانت التهمة هي الإسلاموفوبيا، وهو ما غلّ أيدي البوليس والمسؤولين عن التدخل لمنع تكرار مآسٍ مثل عصابة نيوكاسل.
لكن القضية الأخيرة آثارت غضباً شديداً لدى الرأي العام، وينعكس الغليان على وسائل التواصل الاجتماعي البريطانية ونداءات حول الانتقام من المسلمين، وبخاصة من جماعات اليمين المتطرف.
ورغم أن المسلمين العرب ومن أصول عربية لا علاقة لهم بهذه العصابات ذات الأصول الباكستانية، فإن رد الفعل الغاضب سيلحق بالمسلمين دون تفرقة بين مسلمين عرب ومسلمين آسيويين.
والوقت لم يفت بعد لاتخاذ العرب المسلمين البريطانيين إجراءات الابتعاد بأنفسهم وأنشطتهم عن المنظمات السياسة الانعزالية التي تدعي تمثيل المسلمين.