تأملات في مسألة الاحتباس الحراري
عبدالمنعم سعيد
أعلن الرئيس دونالد ترامب عن انسحاب بلاده من اتفاق باريس الخاص بحماية الكرة الأرضية من عملية الاحتباس الحرارى التى رفعت درجة حرارة الكوكب، وصرح بأن الشعب الأمريكى انتخبه للدفاع عن مدينة بيتسبرج بولاية بنسلفانيا وليس عن باريس. وذكر أن توافق ١٩٥ دولة فى العالم على هذه الاتفاقية إنما يعود إلى أنها ترعى مصالحهم وليس مصالح الولايات المتحدة. وكان رد الفعل العالمى معاديا لموقف الولايات المتحدة نظرا لأنها دولة بالغة الأهمية فى الموضوع، بل إنها مع الصين تتحملان المسؤولية الكبرى للتغيرات المناخية الجارية الآن فى العالم. بالنسبة لنا فإن السلامة المناخية لكوكب الأرض من الأمور المهمة، فلا شك أن من عاشوا خلال العقود الأخيرة سوف يجدون ارتفاعا مضطردا فى الحرارة الآن لم يشهدوه من قبل، تعدى كثيرا ٤٠ درجة مئوية، ووصولها أحيانا إلى ما فوق ٤٥ درجة مئوية، وهو ما لم تتعوده مصر والمصريون، وربما يقضى على ميزة مناخية مهمة جعلت مصر واقعة طوال الوقت فى نطاق الدول المعتدلة مناخيا، وهو الأمر الجاذب للسياحة على مدار العام.
الأمر الخطير الآخر بالنسبة لمصر هو أن ظاهرة الاحتباس الحرارى بدأت بالفعل عملية ذوبان الثلج فى القطب الشمالى مما فتح مسارا ملاحيا للتجارة بين الشرق والغرب لم يكن موجودا من قبل، ما يسبب ضررا لتنافسية قناة السويس. الضرر الثالث ينجم من هذا الذوبان أيضا عندما ترتفع مستويات المياه فى البحر الأبيض المتوسط، ومن ثم تأخذ فى تآكل السواحل الشمالية لمصر فى الدلتا فضلا عن زيادة تسرب المياه المالحة إلى المياه الجوفية.
وأصل الحكاية كلها يعود إلى أن كوكبنا اعتمد دائما فى الحرارة التى يعيش فى ظلها على كوكب الشمس بالقدر الكافى الذى تتطور به الحضارة الإنسانية. ولكن هذا التطور ذاته خلال القرنين الأخيرين بدأ يدخل عاملا إضافيا للحرارة من الإنسان نفسه، الذى دخل سلسلة من الثورات الصناعية التى بدأت تضيف إلى الحرارة الطبيعية عدة درجات إذا ما تركت لحالها فإنها يمكن أن تؤدى إلى دمار الكوكب كله بعد أن تفقده الحرارة الملائمة للحياة البشرية. وفى البداية فإن الثورات الصناعية بدأت فى عدد محدود من دول العالم ابتداء من بريطانيا، ثم منطقة غرب أوروبا، وأمريكا الشمالية، ثم اليابان شرقا. فى أعقاب الحرب العالمية الثانية امتدت الثورة الصناعية لشرق أوروبا والاتحاد السوفيتى السابق ثم مع مطلع عقد الثمانينيات من القرن الماضى جرى الانقلاب الضخم فى التنمية العالمية عندما دخلت الصين والهند وإندونيسيا والعديد من الدول الآسيوية ودول أمريكا الجنوبية فى سلسلة ثورات صناعية متتابعة أضافت كلها لحرارة الأرض وظاهرة الاحتباس الحرارى الناجمة عنها.
هذه التطورات دقت ناقوس الخطر عندما بدأت ظاهرة «ثقب الأوزون» تقلق علماء الطبيعة، ومن بعدها رُصد ارتفاع درجات الحرارة على الكوكب، مما دفع إلى حركة عالمية للتعامل مع هذه الظاهرة عن طريق دعوة دول العالم إلى تقييد الصناعات الملوثة للبيئة والتى تتسبب فى التلوث الحرارى للكوكب.
الصين والهند ودول العالم الثالث قاومت هذا الاتجاه باعتباره لا تزال فى المراحل الأولى للتقدم والتصنيع، وأن المسؤولية الأولى عن ارتفاع حرارة الأرض تقع على عاتق الولايات المتحدة الأمريكية والدول الصناعية الكبرى الأخرى. ولكن العقدين الأخيرين شهدا تقدم الصين على الولايات المتحدة من حيث نصيبها فى الإنتاج الصناعى وبالذات ذلك الذى يؤثر فى المناخ ويأخذه فى اتجاهات سلبية على سلامة الكوكب. ومن حسن الحظ أن مثل هذا التغيير الأساسى فى الطبيعة المحيطة للإنسان حدث بينما وسائل الاتصال تتيح عملية تعبئة واسعة فى القضايا التى تمس جميع البشر.
وجاءت اتفاقية باريس عام ٢٠١٥ لكى تكون علامة فارقة، لأنها وضعت حدودا قصوى لدول العالم ـ خاصة الدول الصناعية الكبرى ـ فيما تسهم به فى التلوث المناخى. وهكذا أصبح على هذه الدول أن تخفض تدريجيا ما تخرجه مصانعها من مخرجات بحيث لا يزيد فى حالة الولايات المتحدة عن ١.٦ مليار طن فى عام ٢٠٢٥. وربما كانت اتفاقية باريس هذه هى الاتفاقية الوحيدة التى وافق عليها دول معادية لبعضها فوقعت عليها إسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية، وكوريا الشمالية مع كوريا الجنوبية. وكانت سوريا ونيكارجوا هما الدولتان الوحيدتان فى العالم اللتان لم توقعا على الاتفاقية، والآن انضمت لهما الولايات المتحدة.
قرار ترامب بالانسحاب من الاتفاقية لم يكن مفاجئا تماما، فقد كان واحدة من وعوده الانتخابية على أساس أن الاحتباس الحرارى ليس ظاهرة حقيقية، فضلا عن أنه يضر بفرص العمل والوظائف للأمريكيين، وخاصة هؤلاء العاملين فى مناجم الفحم. ورغم أن الالتزام بالاتفاقية هو التزام طوعى، إلا أن ترامب خشى الضغوط الدولية على الولايات المتحدة حال مخالفتها للاتفاق. النتيجة فى النهاية كانت انشقاقا كبيرا داخل الدول الصناعية، وداخل دول حلف الأطلنطى، ولكن المفاجأة الحقيقية جاءت من الولايات الأمريكية ذاتها عندما أعلنت ولايات كاليفورنيا وواشنطن الولاية ونيويورك وغيرها أنها سوف تحترم الاتفاقية لأنها من ناحية تريد التخلص من الصناعات الضارة بالبيئة، ومن ناحية أخرى لأنها باتت مستفيدة مما تسميه الصناعات الخضراء أو الصديقة للبيئة والتى لا تنتج عنها انبعاثات ملوثة للمناخ مثل صناعة العربات الكهربائية وأمثالها من الصناعات. الرئيس الفرنسى الجديد إيمانويل ماكرون حاول انتهاز الفرصة بدعوة علماء المناخ الأمريكيين للهجرة إلى فرنسا، كما وعد بالتعاون مع الولايات والمدن الأمريكية التى تتمسك بالحدود التى وضعتها اتفاقية باريس.
أما المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، فذكرت أن القرار الأمريكى لا يمكن «أن يوقف كل هؤلاء الذين يشعرون بالتزام إزاء حماية كوكبنا. ونحن فى ألمانيا، وأوروبا، والعالم سوف نجمع قوانا بحزم وأكثر من أى وقت مضى لهذا الغرض.. ولكل هؤلاء الذين يعتقدون فى أهمية كوكبنا، فإننى أقول إننا سوف نستمر على الطريق الناجح من أجل أمنا الأرض».
كل ما سبق لا يجب استبعاده فى مصر على أساس أنه يخص الدول الصناعية الكبرى أو الدول المتقدمة، أو لأننا ليس لنا دور فيما جرى للكوكب من ضرر، فهناك أكثر من سبب يدفعنا إلى ضرورة المشاركة فى التعاون الدولى الخاص بمسألة المناخ. أولا لأن ذلك فيه فائدة لنا بحكم الأضرار التى يمكن أن تقع علينا كما ذكرنا من قبل فمصر تقع فى قائمة الدول التى يمكن أن تتضرر بشكل بالغ من التغيرات المناخية. وثانيا أن خطط التنمية المصرية واسعة وطموحة، ومن المزايا التى تستفيد منها الدول المتأخرة فى التنمية هى أنها تبدأ من أعلى نقطة للتقدم فى العالم، ومن ثم فإنه لا يوجد ما يدعو للبداية من حيث بدأ الآخرون، وإنما علينا أن نبحث عن أكثر الطرق تقدما لكى نسلكها، خاصة أن جزءا غير قليل من حركتنا يقوم على غزو الصحراء والإقامة بجوار البحر وتوسيع الرقعة الزراعية والتوسع فى الصناعات المختلفة.
«رؤية ٢٠٣٠» تضع ذلك فى حسبانها، خاصة فيما يتعلق بالعاصمة الإدارية الجديدة، والمشروعات العمرانية الأخرى.
وثالثا أن الصناعات «النظيفة» والصديقة للبيئة تعطى منتجاتها مزايا إضافية فى عالم اليوم عند تصديرها للدول المختلفة.
كل ذلك ينبغى مراعاته فى خططنا المستقبلية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة “المصري اليوم” المصرية