تأملات في المشهد الليبي
د. أحمد يوسف أحمد
بدا لوهلة أن الصراع الدائر في ليبيا قد تقدم على غيره من الصراعات في المنطقة، بعد أن تم التوصل لوقف إطلاق النار والتوصل لخارطة طريق للتسوية وتشكيل حكومة وحدة وطنية ومجلس رئاسي جديد، والاتفاق على إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في ديسمبر القادم. غير أن المؤشرات بدأت تتوالى على وجود صعوبات حقيقية تعترض مسار التسوية، وبرز الفشل في التوصل إلى قاعدة دستورية تُجرى الانتخابات على أساسها كواحد من أهم هذه الصعوبات. والمشكلة أن هذا الفشل لم يكن راجعاً فحسب لتباين فكري، أو للتعقّد المعتاد في هذه الحالات بسبب الصعوبات الفنية في التوصل إلى صياغات تُرضي الجميع، وإنما تأكد أن هناك قوى لا تريد إجراء الانتخابات أصلاً، لأنها واثقة من أن نتائجها لن تكون في صالحها، ومن ثم ستقضي على نفوذها ومكاسبها، وبالتالي فإن إجراء الانتخابات بالنسبة لها مسألة حياة أو موت تقتضي منها فعل المستحيل لمنعها.
والأخطر هو ما ثار من شكوك خلال الآونة الأخيرة في أن بعض الأفراد أو القوى في دوائر مؤسسات السلطة المؤقتة الحالية تنتمي لهذه القوى المعرقلة، وزاد الطين بلة أن بعض الفاعلين الدوليين المؤثرين قد تبنى مواقف يُفهم منها عدم ممانعته من حيث المبدأ تأجيل الانتخابات، كما في الاقتراح الأميركي بإجرائها على مرحلتين، أولاهما في ديسمبر القادم والثانية في سبتمبر 2022، وهو اقتراح يفتح الباب للجدل حول ما إذا كان إجراء الانتخابات في موعدها عمل حكيم أصلاً!
ويُضاف إلى كل ما سبق الصعوبة الأساسية التي بُحت الأصوات للتحذير منها، وهي وجود القوات الأجنبية وشراذم المليشيات والمرتزقة، إذ في ظل هذا الوجود لن يخرج السيناريو المتوقع للانتخابات عن مشهدين: إما انتخابات غير نزيهة بفعل وجود هذه القوى، أو انتخابات تُفلِت من تدخلها، لكن نتائجها لن تنجو من هذا التدخل لأنها لن تأتي في صالح هذه القوى.
غير أن ما حدث في الأسبوع الماضي أضاف أبعاداً خطيرة لكل ما سبق، وأكتفي هنا بواقعتين محددتين، أولاهما خروج المرتزقة السوريين في طرابلس إلى الشوارع نهاية الشهر الماضي احتجاجاً على عدم صرف رواتبهم، وقيامهم بحرق الإطارات والاعتداء على الممتلكات وعلى المارة، وهو دليل لا يوجد ما هو أبلغ منه على خطورة استمرار وجود هؤلاء المرتزقة الذين يُقدر عددهم بنحو ستة آلاف في ليبيا، والثانية هي الاشتباكات المسلحة التي وقعت، يوم الجمعة الماضي، بين وحدتين عسكريتين تنتميان كلاهما لهياكل السلطة المؤقتة في ليبيا، وأولاهما (اللواء 444) التابع لرئاسة الأركان بالحكومة الليبية، والثانية «قوة دعم الاستقرار» التابعة للمجلس الرئاسي. ولا تعنيني تفاصيل هذه الاشتباكات أو نتائجها، فالكارثة كامنة في وقوعها بحد ذاته. ولقد ظلت المصادر المسيطرة في الغرب الليبي تحاول الترويج لصورة يبدو معها الصراع الدائر وكأنه صراع بين قوى الديمقراطية والدولة المدنية في الغرب وبين مشروع استعادة الدولة العسكرية الذي يقوده الجيش الوطني المنطلق من قاعدته في الشرق! وبغض النظر عن أي انتقادات يمكن أن تُوَجه لهذا الجيش، فإن الصورة تبدو الآن في الغرب شديدة الوضوح، وتُلقي بظلالها القاتمة على المستقبل الليبي القريب، فكيف يمكن الحديث عن توحيد المؤسسة العسكرية الليبية بينما تتصارع الوحدات العسكرية التابعة لهياكل السلطة المؤقتة، والتي يُفترض أنها موحدة أصلاً؟
يعني ما سبق، في تقديري، أن عملية المصالحة الليبي قاربت الوصول إلى مسار مسدود مع وجود القوات الأجنبية والمرتزقة والانفلات العسكري الذي أظهرته الأحداث الأخيرة، ناهيك بالمليشيات المنفلتة أصلاً. وإذا كان بعض الليبيين يريدون خداع أنفسهم بتوهم السير في الاتجاه الصحيح، فلا مانع.. أما إذا كانوا يريدون تسوية حقيقية للصراع، وحمايةً للأمن الليبي والعربي، فلابد من نهج مختلف.