بين عبد العزيز والحبيب بورقيبة!
تركي الدخيل
أن تزور تونس، يعني أن تطلّ من الشرفة للتاريخ وللمستقبل معًا، الموقع الجغرافي منحها القدرة على استقبال الآخر الجديد، واستيعاب المفاهيم الجديدة، والاحتكاك بأحدث ما أنتج بأوروبا.
التأسيس الصلب للدولة على يد الحبيب بورقيبة، مكنها من التماسك بوجه الأزمات، والعواصف العاتية. حتى حين نشبت الثورة بقيت تونس خارج سياق الاضطراب؛ عانت من بعض الإشكالات الأمنية العادية، لكنها سرعان ما عادت إلى الإرث البورقيبي القوي، كأن شبح الحبيب يطلّ من مباني المؤسسات وظلال التحرك، ومناطق التعبير، موجهًا بيده، ولاذعًا بنصحه، وقاسيًا بتوبيخه، ومرشدًا أبويًا لمجتمعٍ بأكمله، مما منح رباعي الحوار الوطني جائزة نوبل عن استحقاق في ديسمبر (كانون الأول) من عام 2015.
لقد كان تتويجًا لإرث بورقيبة العصي على النسيان، حيث رفع مستوى التعليم إلى درجاتٍ عالية، ورفع الوعي الاجتماعي الدنيوي، وأخذ على عاتقه التصحيح التدريجي للفهم الديني، والذي يصرّح دومًا بأن تغيير المفاهيم الدينية يحتاج إلى مئات السنين.
حين التقيتُ في حوار الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، روى العلاقة التاريخية بين بورقيبة والملك عبد العزيز، حيث زار بورقيبة السعودية عام 1951، أي قبل استقلال تونس، وذكر أن الملك سانده ماليًا من أجل الاستقلال من المستعمر الفرنسي، وكانت النصيحة في تمثل «سياسة المراحل»، بغية تحقيق الهدف المنشود، وتضمنت المحادثة بين الزعيمين قول الملك «امشِ بتؤدة، من أجل الاستقلال، لا تقع بما تورط به بعض العرب، من الاندفاع، ومن ثم اشتباك الاختلافات والصراعات فيما بينهم، والعبرة بالخواتيم». يروي السبسي أن الحوار كان سياسيًا بامتياز، وأخذ بورقيبة بنصح الملك، حتى وصلت تونس إلى عهدها الزاهي، مع التأسيس الأول للدولة بعد عهود الاستعمار، وأبقى على ما كان مفيدًا من تلك المرحلة، ولم يأخذ بعقلية الاجتثاث السائدة لدى التيارات المفرطة بالعاطفة، بل حكّم العقل.
في خطاب «البالماريوم» الشهير، جلس الحبيب بورقيبة، وبجواره معمر القذافي. كان الأخير رافعًا سبابته باتجاه العالم كله، من المستعمر، إلى الأميركي، إلى الإمبريالي، كعادة خطابات القذافي العاطفية الفارغة غالبًا، وحين ابتدر الكلمة بورقيبة أعطى درسًا خالدًا في العمل السياسي.
ليست القصّة، يقول الزعيم، أن نخطب ضد أميركا، بل أن نبني العقول… أن نستطيع تطوير التكنولوجيا، نعادي إسرائيل لا بأس، لكنها أخذت زبدة الحضارات العالمية والغربية، وطوّرت من إمكانياتها. إسرائيل تتطوّر كل يوم، لكننا نحن لا نستطيع إصلاح شؤوننا العادية، مستدلا على عطلٍ في «السخّان» بالقصر، والذي لم يصلحه إلا العقل الفرنسي. قطع الغيار، وطريقة التصليح جاءت من فرنسا، من هنا يجب أن نبدأ. كان الخطاب موضحًا للمستوى العقلي المتدني لوعي معمر القذافي، مقارنةً بمفكرٍ، ومثقف، وسياسي خطير كالحبيب بورقيبة.
الروائي التونسي حسونة المصباحي له كتاب ألّفه عام 2012، بعنوان «رحلة في زمن بورقيبة»، تناول فيه خصائص الزعيم التونسي: «كانت لبورقيبة فضائل كبيرة جدًا على تونس والتونسيين، أولا على مستوى بناء الدولة الحديثة، التي شملت إصلاح التعليم، وإجباريته، وسنّ قوانين لتحرير المرأة، وتحديد النسل، وأيضا على مستوى السياسة الخارجية من خلال ربط علاقات مع كل الدول على أساس سياسة معتدلة بعيدة عن التطرف والتشنج، اللذين تميزت بهما السياسات العربية في زمنه، مثل سياسة عبد الناصر، وسياسة الزعماء البعثيين في كل من سوريا والعراق».
هذا مربط الفرس، أن السياسة التي انتهجها، والتمدين المرحلي، والبناء على الاستقلال، مكّن تونس من الحفاظ على كيانها من العواصف الكبرى التي مرت بها، وبخاصةٍ وهي في وسط جغرافي دقيق، ومع ذلك سرعان ما تتجاوز الأخطار بفضل الامتداد السياسي المحكم، والبناء المؤسسي الأصيل، وعلى الرغم من الانقلاب على بورقيبة، غير أن قطيعةً لم تحدث مع إرث تأسيسه بالمعنى المطلق، لأن النموذج الذي بناه هو الأقدر على البقاء.
تلك هي الشخصية التاريخية التي تبقى بإرثها طويلا، على مر العصور!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية