بين جيل أهلا بالوطن وجيل “أهلا بالعرقلة وبالانقلاب”
سالم العوكلي
الخلاف الحالي على القاعدة الدستورية، ينطلق من شخصنة للأمور، ومن عرقلة يقودها المستفيدون من الأزمة والفوضى والفراغ السياسي، وما أكثرهم. وكم وجِّهتْ نداءات لأعضاء منتدى الحوار السياسي الليبي، بأن يطلعوا على تاريخ الأجداد والآباء المؤسيين، الذين كانت الاختلاقات بينهم كبيرة، لكنهم لم ينسلخوا لحظة عن الإحساس بأن الوطن أكبر وأهم من اختلافاتهم. لكن أعضاء لجنة ال 75 اختلفوا حول القاعدة الدستورية بين تيار وطني ضئيل ومقموع داخل المنتدى يريد ما يجب أن يكون، وبين رجال أعمال لا يفكرون سوى في الصفقات، وبين تنظيم ديني يريد ما يخدم جماعته ويُمكّنهم من هذا المجتمع حتى بلا دولة، مثلما حاولوا أن يتمكنوا منه، طيلة السنوات الماضية، عبر الميليشيات، والاغتيالات، والتحكم في البنك المركزي، والعمالة المعلنة لقوى دولية وإقليمية لا تريد لليبيا أن تنهض لأسباب كثيرة، ليس أقلها: حروب الغاز المقبلة، أو إجهاض أي مشروع ديمقراطي في منطقة أصبحت فيها الديمقراطية بعبعا يهدد الأنظمة غير الشرعية.
لأن الحديث عن القاعدة الدستورية، ومحاولة للإجابة عن سؤال تكرر في التعليقات حول البيان الذي وجهه مجموعة من النخب الليبية لملتقى الحوار كي يكونوا في حجم المسؤولية، ولتذكيرهم بما فعل آباؤهم المؤسس، الذين لم تكن بينهم شهادات دكتوراة ولا حتى جامعية، فقط كانوا يملكون الحكمة والنزاهة والقدرة على التنازلات المتبادلة من أجل هدف عظيم تمثل في استقلال أرض لم تستقل منذ قرون، وصياغة دستور يؤسس لدولة حديثة بكل المعايير في ذلك الوقت.
يذكر المفوض أدريان بيلت في كتابه “استقلال ليبيا والأمم المتحدة” أنه “في العاشر من سبتمبر 1951، استلمت الجمعية التأسيسية الوطنية الفصول الأربعة الأولى من مسودة الدستور، وفي 17 سبتمبر استلمت الفصول الثمانية المتبقية، وتقرر أن تكون القراءة الأولى في جلسة علنية، لمنح الجمهور العام فرصة لمعرفة محتويات الوثيقة” وأوضح رئيس لجنة الستين، المفتي أبو الإسعاد العالم، أن هذه المسودة ليست نهائية وأنه خلال النقاش العام الذي سوف يبدأ سيكون من حق كل عضو أن يقدم أي تعديل أو مقترح.
وأظهر الحوار أن الخلاف مازال محتدما حول بعض البنود الحساسة، خصوصا الاختلاف الجوهري بين التيار الوحدوي المتطرف وبين دعاة الفيدرالية المتطرفين، وفي وسط هذا التطرف الحاد تشكلت قوة معتدلة وعقلانية داخل اللجنة تحاول التوفيق بين الرغبتين، دولة موحدة بنظام ولايات تنسق صلاحيات حكوماتها مع الحكومة الاتحادية. يقول بيلت الذي عايش هذه الحوارت عن قرب دون أن يتدخل إلا إذا وجهت له ولفريقة استشارة فنية، وقد استعان بكل محاضر الجلسات في تدوينه لمسيرة هذا الستور: “لا يمكن إنكار أن موقف الأعضاء البرقاويين في الجمعية التأسيسية الوطنية الليبية كان حساسا. وعلى الرغم من أنهم يشكلون بالاشتراك مع الفزانيين الأغلبية في معظم القضايا، وكثيرا ما كانوا يرغبون في الاستفادة من هذا الوضع، غير أن قادتهم، خليل القلال وعمر شنيب على وجه الخصوص، كانوا على قدر كبير من الحكمة جعلتهم يقدمون تنازلات معينة للأٌقلية الطرابلسية من المعتدلين الوحدويين. على الجانب الطرابلسي، وجد عدد قليل من الرجال مثل منير برشان أنفسهم في موقف مماثل إلى حد ما في ما يتعلق بحزب المؤتمر، ولكن كونهم على أرضهم كانت لديهم إمكانية تقديم تفسيرات يومية حول سياساتهم إلى أصدقائهم السياسيين الأكثر تطرفا”. يشار إلى أن منير برشان قد استقال من حزب المؤتمر الوطني الطرابلسي صيف 1951 . ويشار إلى أن حزب المؤتمر كان توجهه وحدويا متطرفا بسبب علاقته العضوية مع القومي عبدالرحمن عزام أمين الجامعة العربية آنذاك، الذي كان يعتقد أن نظام الولايات سيتعارض مع أي طموح نحو تحقيق أي نوع من الوحدة العربية.
من مواقف شاهدة على مدى التنازلات المتبادلة، حيث كان يتم تحاشي الوصول إلى التصويت في أي نقطة يختلفون فيها سعيا وراء التوافق بدل المغالبة، حصل خلاف حول المادة 136 المتعلقة بالتوفيق بين سلطات التاج وسلطات البرلمان، وكما يذكر بيلت “اقترح أحد الأعضاء البرقاويين؛ الذي كان ملكيا أكثر من الملك، أنه بدلا من القول (يجوز للملك إعادة القانون إلى البرلمان لإعادة النظر فيه)، يجب ان تنص المادة على أن (للملك الحق في إصدار القوانين أو رفضها). ورد عضو طرابلسي على ذلك بالإشارة إلى أن هذا يعني إلغاء البرلمان. وتلا ذلك نقاش طويل، قال خلاله رئيس الفريق العامل خليل القلال، وهو نفسه من برقة: لا تسري القوانين على الملك إلا بعد مروروها بمرحلتين في مجلس النواب ومجلس الشيوخ، وأن الموافقة النهائية يجب أن تكون بأغلبية ثلثي الغرفتين معا. وقال إن الملك ديمقراطي بطبيعته وأن الملك في هذه الحالة له حقوق والشعب له حقوق، ولكن الملك غير قادر على معارضة رأي الأغلبية.”.
من أجل الوصول إلى حل دون أذى مشاعر الأعضاء باللجوء إلى التصويت، علُقت الجلسة لفترة وجيزة. وهي الفترات التي عادة فيها تُهدا الخواطر ويتحقق التوافق، وبعد أن استُؤنِفت الجلسة، عبّر الرئيس عن أن المادة 136 صيغت من قبل مجموعة العمل التي يرأسها السيد القلال وأدخلوا التعديلات حتى وصلوا إلى صياغة نهائية سليمة ترضي جميع الأطراف. وقال أن أخيه وزميله عبدالجواد الفريطيس “كان مفعما بالحب والولاء للملك وحريصا على الحفاظ على حقوقه” وأضاف : “لو استطاع زميله المحترم أن يرى طريقة للامتناع عن إصراره، فإنه سيجعل الأجزاء الصعبة من مناقشتهم أسهل بكثير وسيوفر لهم الكثير من الوقت”.
وبناء على هذا الكلام الودي، رد عبدالجواد الفريطيس بقناعة قائلا: “إنه كان تلميذا مخلصا لفضيلة الرئيس، وعضوا في الجمعية التي كان رئيسها، وبالتالي لم يكن لديه خلاف مع فضيلته، وأنه تراجع عما يرغب في قوله إرضاء لهم، وأنه سحب طلبه، وشكرهم على لطفهم وتوجيههم، وشكره الأعضاء بالإجماع وأكدوا على المادة كما هي”.
في حوار لجنة ال 75 الجاري حاليا يقول عضو يحمل شهادة دكتوراة “أهلا بالعرقلة وأهلا بالانقلاب” ويستمر في عرقلته لوضع قاعدة دستورية كي تجري الانتخابات في موعدها يوم 24 ديسمبر، ولأنه يتلقى أوامره من التنظيم الدولي وليس من أحاسيس وطنية، سيظل يعرقل هذا المسار الذي يهدد جماعته الأخوانية المزدراة اجتماعيا في ليبيا، كما عبرت صناديق الاقتراع سابقا، بالخروج من المشهد، مثلما حصل في كل الانتخابات التي جرت بعد فبراير 2017.
تجدرالإشارة إلى أن ما تبقى من وقت للجنة الستين، آنذاك، كي تجهز الدستور هو 110 يوما فقط، باعتبار أن هذه الجلسة كانت تجري يوم 10 سبتمبر 1951 ، وان الموعد النهائي الذي حددته الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها لتنال ليبيا استقلالها ويعترف بها المجتمع الدولي وفق محتوى دستورها هو 1 يناير 1952 . واستطاع الجميع بروح الحوار وإبداء التنازلات واللطف المتبادل على ان ينجزوا المهمة قبل حتى هذا الموعد، وأعلن الاستقلال يوم 24 ديسمبر 1951 بعد أن تم التوافق على القاعدة الدستورية عبر الحوار وليس عبر المغالبة بالتصويت، وحيث اعتبر بيلت؛ الذي أطرى كثيرا على رجال تلك المرحلة الصعبة، مهمته إحدى قصص منظمة الأمم المتحدة الناجحة والتي يجب ان تلهم مهمات أخرى في العالم.
يقول المفوض بيلت، وهو يتابع النقاشات داخل لجنة الستين: “من الصعب أن تتخيل ـ أو أن تجد ــ طريقة أكثر لطفا لتسوية اختلاف في الرأي يحدث اثناء مناقشة برلمانية، وبالتالي كان كل شيء على ما يرام مرة أخرى”.
في الجزء 3 من الكتاب وتحت عنوان “اكتمال الدستور” يرد أنه منذ البداية “كانت جميع جلسات بنغازي للجمعية التأسيسية الوطنية الليبية مفتوحة للجمهور، من جميع أنحاء الولاية، توافد وجهاء وقادة سياسيون من المدن ومن المناطق القبلية على حد سواء. وللمرة الأولى سمع البرقاويون مسودة الدستور تتلى عليهم بصوت عال.”
كما يسرد بيلت حالة الارتباك التي أثارها رئيس مجموعة العمل حين أعلن نيابة عن الملك ما يتعلق بالمادة 69 المتعلقة بسلطات التاج التي صيغت في المسودة، وكان نصها كما يلي : “يعلن الملك باسم الشعب الليبي الحرب ويبرم السلام ويدخل في معاهدات مع دول أجنبية، وعليه إبلاغ البرلمان عن طريق البيانات والتفسيرات المناسبة عندما تسمح مصلحة الدولة وسلامتها. ولا تسري معاهدات التحالف وتلك التي تنطوي على أي انتقاص في الحقوق السيادية للدولة أو أي نفقة على الخزانة العامة أو التي تضر بالحقوق العامة والخاصة لليبيين حتى الحصول على موافقة البرلمان. ولا يجوز بأي حال من الأحوال أن تتعارض المواد السرية مع المواد المعلنة.”.
أعلن خليل القلال الآن، كما يستطرد المفوض “أن جلالة الملك لم يكن يرغب في ممارسة هذا الحق، كما أنه لم يكن يرغب في ممارسته دون موافقة البرلمان. وبناء على ذلك، طلب جلالة الملك أن تحل محل مسودة المادة الكلمات التالبة: “يعلن الملك الحرب ويعقد الصلح ويبرم المعاهدات ويصدق عليها بعد موافقة البرلمان”.
ويصف المحضر الذي غطا هذه الجلسة المشهدَ الذي أعقب ذلك بالعبارات التالية: “انطلقت عاصفة من التصفيق والابتهاج، مع هتافات (عاش الملك الديمقراطي) التي شارك فيها الجمهور الحاضر. وقبلت ملاحظات الملك بسررو وموافقة. وعدلت المادة المذكورة أعلاه بذلك المعني وأكد التعديل الذي أعطى البرلمان السلطات فيما يخص كل الأمور المتعلقة بالسيادة .
أحب أن أقارن هنا بين ما أراده السيد إدريس السنوسي الذي قاد النضال العسكري والسياسي في الأرض الليبية لأكثر من نصف قرن حتى وصل إلى هذه اللحظة التاريخية ، وبين مجلس رئاسي لم يسمع بأسمائه أحد، وحكومة انتقالية سميت زورا (حكومة الوفاق) لم تنل شرعيتها من البرلمان المنتخب، ودخلت العاصمة في فرقاطة أجنبية لتحميها الميليشيات المتطرفة، وتبرم معاهدات واتفاقات تنتقص من السيادة الوطنية مع قوة استعمارية سابقة يحكمها التنظيم الدولي للأخوان المسلمين، ويصبح وزراءهم للدفاع واستخباراتهم وجنرالاتهم يطأون الأرض الليبية، جيئة وذهابا، دون علم من أي سلطة ليبية ، بل ويجلبون عشرات الألوف من المرتزقة والإرهابيين المقاتلين في سوريا باتفاقيات ومعاهدات مقابل مليارات تحال إلى تركيا على حساب الخزانة العامة دون أن يكون للبرلمان أي رأي في ذلك.
قد يقول قائل: لم تفعل هذه الحكومة غير الشرعية ذلك إلا عندما وصل الجيش إلى تخوم طرابلس، وأقول لو أن هذه الحكومة صبرت وحاورت ــ مثلما صبر وحاول هؤلاء المؤسسون في تلك الظروف الصعبة ــ حتى ضُمِّن الاتفاق السياسي في الإعلان الدستوري، وحتى نالت شرعيتها من البرلمان، واعتُمِدت حكومتها وتلت القسم القانوني،، واصبحت حكومة وفاق حقيقية، لما حدث ما حدث، ولما كان هناك مبررلأي أحد أن يحرك قواته صوب الغرب أو صوب الشرق أو الجنوب، طالما هناك سلطة شرعية تستمد شرعيتها من الداخل وليس من الخارج. لكن هروب السراج برخصته إلى طرابلس، وانقطاعه تماما عن الشرق والجنوب، وتحوله إلى مجرد توقيع وختم معترف به دوليا لإبرام الاتفاقيات والمعاهدات الضارة بالسيادة وبالاقتصاد الوطني، هو ما أدى بنا إلى هذا المسار الصعب. والآن حكومة الدبيبة تسير على نفس المنوال، وتتحول إلى مجرد ختم وتوقيع وذريعة لتمديد صلاحية المعاهدات التي ملأت الأرض الليبية بالجماعات الإرهابية، باعتبار أنها تعمل بنفس العقلية وفي نفس الظروف حيث تتحكم بها الميليشيات، وحيث الفساد الذي جاءت عن طريقه ويحيط بها سيفضي بنا إلى مرحلة أصعب، وحيث لن تقام في ظل هذه الظروف انتخابات في الموعد المحدد24 ديسبمر، وهو الموعد الذي سجله في التاريخ رجال صدقوا ما عاهدوا عليه الوطن، والفارق كبير بين جيل وصفه بيلت باللطف والمرونة والحكمة، وسجل التاريخ نزاهته، وجيل يقول أحد قادته بالصدفة، عبد الرحمن السويحلي (أهلا بالعرقلة وأهلا بالانقلاب). ويسجل التاريخ فساده.
طالما الكلمة الأولى في الشارع مازالت للسلاح الخارج عن القانون، وطالما العاصمة مازالت في قبضة الميليشيات والمرتزقة والجنرالات العثمانيين، وطالما العسكريون في الداخل متأهبين للانقضاض على السلطة بعد أن فشلت الطبقة السياسية، وفشل منتدى الحوار الليبي، لن تقوم الانتخابات في موعدها المحدد ولا في أي موعد.